الإنترنت.. من أداة تحرر إلى وسيلة قمع ومراقبة

من المطبعة إلى الإنترنت، استطاعت السلطة عند كل تغيير جذري يفتح الباب أمام حرية التعبير أن تتكيف مع تلك التغييرات لتعيد تنظيم الفضاء العام، وتفرض سيطرتها على رعاياها أو مواطنيها. في كتاب “الطوباوية المخلوعة، تاريخ مضادّ للإنترنت” يستخلص عالم الاجتماع الفرنسي فيليكس تريغي نتائج فشل الحركات التي تولّدت عن الثقافات الرقمية المضادة، ويقترح تجديد النقد التكنولوجي ورفض حوسبة العالم، وينصح أولا بإيقاف عمل الآلة.

يفتتح عالم الاجتماع فيليكس تريغي، الباحث في مركز الإنترنت والمجتمع، التابع للمركز الفرنسي للبحوث العلمية، كتابه “الطوباوية المخلوعة، تاريخ مضادّ للإنترنت” بالاعتراف بالفشل، فشله هو كأحد مؤسّسَيْ “تربيع دائرة النّت” وهي جمعية نذرت نفسها للدفاع عن الحريات في العصر الرقمي، وفشل كل النشطاء المناهضين لمصادرة حرية التعبير على الشبكة.

والأسئلة التي يطرحها، والتي تتداولها كل الكتب التي اهتمت بالإنترنت وحوسبة المجتمعات في الأعوام الأخيرة هي التالية: كيف أمكن للطاقة المحرِّرة التي منحتها تكنولوجيا متطورة تسمح للناس جميعا بالتواصل دون وساطة، وتتيح كشف الأسرار أن تفشل؟ وكيف يمكن لهذه الطوباوية أن تُخلَع من عرشها؟ وكيف أمكن للإنترنت أن يتحول إلى أداة تفتيش ومراقبة فعالة للفضاء العام؟

تاريخ السيطرة

للإجابة عن تلك الأسئلة، يقترح الكاتب تاريخا مضادّا للإنترنت، يضعه في موازاة ثورات اتصال تكنولوجية كبرى كالمطبعة، مركّزا تحليله على الدولة واستراتيجياتها في التحكم في الفضاء العام. فلكي نفهم طبيعة ما يجري الآن، وكيف سعت الدولة دائما إلى التحكّم في وسائل الاتصال والفضاء العام، يرتد بنا الباحث إلى القرن الخامس عشر واختراع المطبعة الذي أتاح دمقرطة إنتاج المصنّفات وترويجها، ثم تحويلها إلى وسيلة احتجاج سياسي، خاصة في نطاق الإصلاح البروتستانتي حيث كانت الكتب والرسائل النقدية تنتقل عبر البلدان الأوروبية بحرية.

وأمام هذه الحركة الواسعة، وحالات الفوضى التي ولّدتها، لجأ ملوك أوروبا إلى الرّدع والمصادرة. من هنا، يقول الكاتب، تبلورت نظرية مبرر وجود الدولة التي شرّعت سلطتَهم على قواعد جديدة. وهو مبدأ غائم فلسفيّا تمكّنت الدولة بمقتضاه أن تخرق القانون بدعوى معيار أعلى، ولما كان تعريفه غير محدّد، فقد استغله الحاكم لتشديد سلطته وإحكام قبضته على شعبه، وكانت الغاية لديه دائما تبرر كل الوسائل. من هنا استمدت إجراءات الحاكم الحالي جذورها، حيث استعاد من مظاهر الجور ما كان قائما منذ قرون.

السّرية والمراقبة والمصادرة والتحكّم في الوسائط التقنية والدعاية المضلّلة شكلت بوليس الفضاء العام منذ القرن  الـ16

ويتبدى من السردية الكبرى التي يطرحها الكاتب أن الأجوبة التي يواجه بها الحكام وسائل الاتصال المتجددة عبر العصور لا تتغير. فبعد الثورة الفرنسية، التي شهدت ما بين صيف 1789 وخريف 1791 ما وصفه المؤرخون بـ”جنة الحرية”، عوّض “مبرر وجود الدولة” بـ”سلامة الدولة” ثم بـ”أمن الدولة”، أي ثلاث صيغ مختلفة لفلسفة واحدة.

فالسّرية والمراقبة والمصادرة والتحكّم في الوسائط التقنية والدعاية المضلّلة التي شكلت بوليس الفضاء العام منذ القرن السادس عشر ما انفكت تتجدد تحت تسميات مختلفة ودواع شتّى. ولئن ظهرت بعض التعديلات خلال تلك الحقب، كحرية الصحافة التي تمّ إقرارها عام 1881 في فرنسا، فإن الدولة لا تفتأ أن تقابلها بأحكام تتراوح بين القمع والانضباط، أي أنها تمارس الإرغام والعقاب. قد تظهر بعض الانفراجات هنا أو هناك، ولكن حركة المدّ والجزر لم تتوقف إلى اليوم.

ذلك أن وعود الانفتاح التي بشّر بها بناة الإنترنت، وفي مقدّمتهم أبو السيبرنيطيقا الأميركي نوربرت وينر (1894-1964)، وكانوا يعتقدون أن تقاسم المعلومة سيكون عامل سلام وتقدّم، وأن التعبير الحرّ الذي ستمهّد له هذه الوسيلة اللامركزية سوف يسمح لكل فرد بتحرير طاقته التعبيرية والإبداعية، باءت كلّها بفشل تمثل في نقطتين: الأولى أننا صرنا، بدل التحرر الموعود، نواجه تقلص حرياتنا بشكل مزعج، وفي غياب الحرية، تمّ فرض القوانين الاستثنائية بتعلّة مكافحة الإرهاب وخطب العداء والكراهية والعنصرية، علاوة على أن الإنترنت لم يضع الرأسمالية موضع مساءلة، بينما تراجعت الإيكولوجيا إلى حدودها الدنيا.

والثانية، فشل المدافعين عن الحريات، ومنهم الكاتب وجمعيته كما أسلفنا، ويفسّر ذلك بقوله “بعد نصف قرن من حَوسبة العالم، يمكن أن نواصل إعادة تدوير نفس الخطب، ونفس الوصفات لنجنب المعلوماتية الإضرار بالحريات، بيد أننا نخسر في الأثناء أهمّ المعارك، في مرحلة تلبّدت سماؤها بالغيوم”.

عالم الانترنت عميق ومتشعب

النضال المعلوماتي

لقد مثلت العشريات الثلاث الأخيرة في نظر الكاتب شكلا من أشكال عودة الإقطاع، وكان من ضحايا سيطرة السلطة على الإنترنت ناشطون قراصنة مثل جوليان أسّانج وأنونيموس، كانوا يجتهدون لفضح ما لا يريد الحكام ولا رؤساء الأموال كشفه.

هذه المرحلة شهدت بروز أول منظمة كبرى للدفاع عن الحريات العامة في الوسط الرقمي هي مؤسسة الحدود الإلكترونية التي أسسها جون بيري بارلو وميتش كابور عام 1990، مثلما شهدت جدلا واسعا حول طبيعة النظام التشريعي الذي ينبغي تطبيقه على الإنترنت.

ولكن أحداث الحادي عشر من سبتمبر ثم بروز أوليغارشيات احتكارية عظمى هي شركات غافا (غوغل، أمازون، فيسبوك، أبل) لم تضع حدّا لذلك الجدل فحسب، بل سنّت قوانين لوضع برامج مراقبة كونية مثل إيكيلون، وباتريوت آكت، وكلاود آكت، وقبله بريسم أضخم مشروع أميركي للتجسس، وكان إدوارد سنودن قد كشف أنه برنامج سرّي للغاية تستعمله وكالة الأمن القومي للوصول إلى بيانات المستخدمين المخزنة في أجهزة خوادم شركات الإنترنت الأميركية الكبرى بما فيها ياهو وميكروسوفت ويوتيوب وسكايبي إضافة إلى غافا، بدعوى مكافحة الإرهاب كما جاء في تصريح لباراك أوباما. ومثلها البرنامج الأوروبي إي إيفيدانس.

فكان من مظاهر استعادة السلطة سيطرتها على الفضاء العام تعزيز المراقبة، والتشدّد في حماية الأسرار، وتجريم أشكال النضال المعلوماتي، وعودة المصادرة الإدارية، وتضافر جهود شركات التكنولوجيات العملاقة والحكومات، وتحالف الخاص والعام، وهو ما لخّصه الباحث في قوله “تكنولوجيا المعلومات تسير دائما إلى الأمام في خدمة السلطة. فلو كان لها علاقة بأي وجه من الوجوه بمجتمع حرّ متساو لما وجدت أصلا”.

والحلّ في رأيه لا يكون فقط بكشف دوافع منتجي التكنولوجيا، وفضح سياسة الهيمنة الكونية التي يمارسونها، وتوعية الناس بأن الحواسيب والهواتف الجوالة وسيلة للمراقبة والإثراء الفاحش، ولا بعمليات تخريب لكل ما له صلة بالمعلوماتية كما حدث في فرنسا في مطلع الثمانينات، وإنما الحل في رأيه، إلى جانب تجديد خطاب النقد التكنولوجي، أن نسحب الوصلة الكهربائية عن الآلة، أي أن نكفّ نهائيا عن استعمال الإنترنت.

لكن هذا في حدّ ذاته طوباوية، فلا نعتقد أن ثمة اليوم من يعدل عنه، وقد صار جزءا من حياته، الشخصية والعملية، فلولا الإنترنت ما كانت الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لتستمر إبّان هذه الأزمة الصحية الكبرى، وغاية ما يمكن أن نطمح إليه هو وضع قوانين تمنع استغلال الإنترنت لغير ما وُجد له.

وبصرف النظر عن الإنترنت، فالكتاب يمكن أن يُقرأ كنظرة تأمل في هذه الطوباوية المخلوعة عن عرشها، وأسباب فشلها، وشروط ابتكار أساليب مقاومة جديدة من أجل تغيير مجتمعي حق.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: