الجزائر تنأى بالدين عن التوظيف السياسي وسط مقاومة شديدة
اختارت السلطة مكلفا بمهمة في رئاسة الجمهورية ورئيس اللجنة الوطنية المكلفة بتعديل الدستور لإطلاق بالونات اختبار جس نبض الشارع حول مشروع تحييد مقومات الهوية الوطنية وعلى رأسها الإسلام في الدستور القادم، في خطوة تهدف إلى سحب الدين واللغة من التجاذبات السياسية.
وأثارت التوجهات المعلن عنها في الجزائر من طرف مسؤولين بارزين في ملف تعديل الدستور حول علمنة الدولة، مقاومة أفقية وعمودية في البلاد. ولم يتأخر الوزير المستشار في رئاسة الجمهورية والناطق الرسمي باسمها محند أوسعيد بلعيد، المحسوب على تيار الإسلام السياسي، في الانضمام إلى حملة المقاومة الشرسة الشعبية والسياسية المفتوحة ضد التوجهات المذكورة، بقيادة رموز التيار الإسلامي.
وكان رئيس اللجنة الوطنية المكلفة بتعديل الدستور أحمد لعرابة قد رافع في تصريحات لصحف محلية، لصالح مبدأ المواطنة الذي يستقطب جميع المشارب والخلفيات اللغوية والدينية، وألمح إلى سحب ما يعرف بـ”ثالوث الهوية” من الدستور، وذلك على هامش حديثه عن مضمون وخلفيات المقترحات المعروضة للنقاش.
وقال أحمد لعرابة إن “الدستور موجه إلى مواطنين وليس إلى مؤمنين، وبالتالي عناصر الهوية يمكن إبعادها عن الدستور، ليصبح بإمكانك أن تعيش جزائريا دون أن تكون عربيا أو أمازيغيا أو مسلما، لكن مجتمعنا غير مستعد لهذا المفهوم من المواطنة، وبالتالي علينا بالتقدم تدريجيا وسترون أن هذه العناصر المكونة للهوية الوطنية ستختفي من الدستور مستقبلا”.
وكان مدير حملة الرئيس عبدالمجيد تبون، وأستاذ الإعلام في جامعة الجزائر، محمد لعقاب الذي يشغل الآن منصب مكلف بمهمة في رئاسة الجمهورية، قد مهد لهذا المسار خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة، بإثارته لجدل البسملة، بعد تعبيره في تلفزيون البلاد الخاص عن “رفضه افتتاح أي مخطوط أو منشور بالبسملة”، في خطوة ألمحت إلى رسالة سياسية تستهدف جس نبض الشارع حول مخطط تحييد الدين عن الشأن السياسي.
وأحيا لعقاب بذلك سجالا سبق لوزيرة التربية السابقة نورية بن غبريط أن فتحته في إطار إصلاحات المنظومة التربوية، ولقي حينها مقاومة شديدة من طرف الأوساط الدينية المحافظة، وهو ما يعطي الانطباع بأن السلطة ماضية في نهج تحييد الدين عن الشأن السياسي.
ويبدو أن بالونات الاختبار، التي تكفل بإطلاقها المكلف بمهمة في رئاسة الجمهورية ورئيس لجنة تعديل الدستور، ستكون مقياسا لرد فعل الشارع ومعرفة مدى قابليته لتبني الأفكار المعلن عنها، خاصة في ظل هيمنة الكثير من التيارات الدينية على المجتمع، والتي تلتقي رغم خلافاتها الجوهرية في رفض تحييد الدين عن الشأن السياسي.
وخصت الدساتير الجزائرية المتعددة مسألة الدين واللغة ببنود ثابتة، ليشكل بذلك الإسلام واللغة العربية والأمازيغية ما يعرف بـ”ثالوث الهوية الوطنية” غير القابل للمراجعة أو التعديل.
ولم تتأخر حملة المقاومة في المنابر الإعلامية وشبكات التواصل الاجتماعي كثيرا، حيث شن أنصار المكون الهوياتي من إسلاميين ومحافظين هجوما شرسا على تصريحات محمد لعقاب وأحمد لعرابة، وتم اتهامهما باستغلال تعديل الدستور “لتنفيذ مخطط تفريغ المجتمع من أبعاده الدينية واللغوية، وتحقيق ما عجزت الآلة الاستعمارية عن تحقيقه طيلة قرن وثلث (القرن)”.
وصرح في هذا الشأن، الوزير المستشار لرئيس الجمهورية والناطق الرسمي باسم الرئاسة محند أوسعيد بلعيد، الثلاثاء، بأن “النقاش حول مسودة الدستور يؤكد حاجة البلاد إلى دستور توافقي عابر للعهدات وليس على مقاس الأشخاص، وأن المسودة لا تتعلق بالخوض في مكونات الهوية وهي خارج النقاش وطوي ملفها”.
ولفت إلى أن “إثارة قضية الدين في بعض النقاشات تعتبر استفزازا صريحا لمشاعر المواطنين فالشعب الجزائري مسلم أمس، واليوم وغدا وإلى يوم الدين”.
لكن في المقابل هناك تيارات سياسية وأيديولوجية في البلاد، تناهض مكانة الدين الإسلامي في المنظومة التشريعية والهوياتية للبلاد، حيث لا يتوانى التيار الديمقراطي العلماني منذ بداية التعددية السياسية نهاية ثمانينات القرن الماضي، في رفض المرجعية الدينية والدعوة إلى فصل الدين عن الدولة.
وحمّل هذا التيار قوى الإسلام السياسي مسؤولية جر المجتمع إلى مشروع ظلامي، خاصة بعد العشرية الدموية التي هددت كيان الجمهورية وكادت تعصف به لولا وقوف المؤسسة العسكرية لإنقاذ الدولة من الإسلاميين.
واتهمت أحزاب علمانية السلطة بالتواطؤ مع الإسلاميين لتقاسم الكعكة خلال العشريتين الماضيتين، حيث عمد الطرفان إلى تقاسم مؤسسات الدولة، في صفقة تكفل للسلطة البقاء في مواقعها، وفي المقابل يستفيد الإسلاميون من مكاسب سياسية وأيديولوجية.
وبهذا التوجه المعلن عنه من طرف رموز في السلطة تكون تعهدات الرئيس تبون قد تحققت بإجراء تعديل عميق في الدستور؛ إذ ينتظر أن تغطي مسألة حجب الدستور لورقتي الدين واللغة على جميع النقاشات المفتوحة في مختلف الدوائر، وهو ما يضع أصحاب المقاربة في امتحان حقيقي أمام ردود فعل الشارع، وخاصة أن جل الإحصائيات تشير إلى هيمنة الإسلاميين والمحافظين على المجتمع.
ولا يستبعد مناهضون لمقاربة علمنة المجتمع وسحب اللغة والدين من التوظيف السياسي، اندراج ذلك في إطار سعي السلطة إلى الامتثال لنصائح منظمات دولية تدعو إلى ضرورة تكييف الوثيقة الدستورية مع المعايير الدولية.