قائمة الوداع في ظل كورونا…

إيطاليا :مونية علالي.
كان يعمل منذ نزوحه وتسوية وضعيته في قاعة الإنعاش، تعود على هذا العمل كما هو الشأن لجميع ممرضي الإنعاش الذين يتطبعون مع برودة الموت، وتصبح لديهم حدثا عاديا بعد معركة شرسة بينها وبين التشبث بالحياة… ولكن الفرق هو أنهم يتضجرون من عملهم الذي غالبا ما تنعكس قسوته على محياهم، فتصبح تقاسيم وجوههم عابسة، وتغيب ابتساماتهم مع وقف تنفيذها، فالموت الذي يخافه الجميع ونسميه مصيبة لا يؤثر فيهم. هو حدث ينتهي بعد صراع مرير بين حتميته والرغبة في الحياة، أما هو فيحب مهنته، ويتفانى فيها، يهتم بتفاصيلها ويتابع بشغف الحالات التي يصادفها. اختار منذ البداية أن يكون رقيقا في عمله فهو أصلا درجات الانسانية مرتفعة لديه، يسعده أن يهتم بالطلبات الأخيرة للمريض وأهله وهذا يميزه ويجعله مختلفا عن باقي الممرضين في جناح الإنعاش. مؤخرا حين يشاهد الأقارب المودعين حول سرير المريض، لم يعد يقدر أن يواسي أحدًا كما في البداية حيث كان يعيش اللحظة بكل ما تحمل من إنسانية وحزن. تغير كثيرا على إيقاعات موتى فيروس كرونا، حيث وجد نفسه أكثر من مرة يردد بصوت مرتفع وبحركة لا شعورية: الأمر مختلف تمامًا هذه الأيام…
موتى… موتى… أكثرهم شيوخ… الأعداد تتكاثر… الجثث تتراكم والإيقاع يتسارع وكأننا على مشارف دنيا في تجاه نهاية العالم. شكل هستيري يخيم على قسم الإنعاش.
كنت يومها في قاعة الإنتظار، وقد أسندت ظهري على حائط بجانب باب الخروج أنتظر الممرضة لتعود إلي بوصفة دواء والدي الموقعة من الطبيب الذي تعذر علي أن أراه وسط هذه الموجة من الإسعافات. ودون أي سلام أو سابق بداية حديث، اتجه الي وهو يحكي شيئا أثر فيه دون شك، في الأول كدت ألا أعيره انتباهي، لكن حركاته الانفعالية وطريقته في الحديث لفتتني وأعادتني إليه: “الليلة اقتربت من رجل مسن، دخل قاعة الإنعاش منذ أربعة أيام، مصاب بفيروس كرونا اللئيم، الذي حيرنا وحير الأطباء والبيولوجيين وأتعب المرضى قبل أن يسلب أرواحهم، كان يرتدي خوذة التنفس وكنت أرتدي القفاز والغطاء البلاستيكي وأضع نظارة وكأني أطوق جسمي حماية من شرير مارد يمكن أن ينفلت من طلسم في محكم. ببساطة كنت مغلفا بملابس العمل التي تجعل مني أشبه برجل فضاء هكذا أرادوا لنا أن نكون لنحمي أنفسنا من العدوى”. استمر يحكي بعفوية جعلت حديثه منسابا، يحمل معه زخما من المشاعر… تحولت إلى دموع تسيل دون تحكم مما جعلني انتبه له أكثر، تأكدت أنه يحتاج أن يتخلص من شئ ثقيل بداخله: ” نظر المريض وهو عجوز بالمناسبة حوله خائفا، ثم انحرف جنبا ليتشبث بملابسي التي حاولت أن أسحبها منه بلطف وهمس لي: هل صحيح؟ هل سأموت؟ وهكذا سأنتهي ؟؟؟ لا أريد أن أموت هكذا!! قابلت نظراته الضالة الباحثة عن الأمل والتي لم أستطع تفاديها أو تجاهلها لأنها كانت صارخة، ثابتة تستجدي مني ردا، بل تلح أن أصنع لها أملا تتشبت به… حاولت مواساته… ” استطرد قائلا: “لكني أعترف أنه هذه المرة لم تكن لدي إجابات… كل ما أعرف أن الموت يحاصر وأن الأعداد كثيرة قد تتجاوز المائة في اليوم الواحد.” توجه إلي بسؤال رد عليه بنفسه:”هل تعرفين ما هو الشعور الأكثر إثارة الآن؟؟؟ الشعور الذي يجتاحني؟ هو أني أمقت كل الناس! لقد كفرت بكل العلاقات بالأهل والولد!!ضحينا بالكثير، بل بكل شيء، من أجل لا شيء، أضحيت أشاهد المرضى وهم يموتون بمفردهم تباعا، أستمع لهم وهم يصارعون الموت في معزلهم ويتفلتون من اختناقاتهم ليتوسلوا بطلبهم لتحية أبنائهم وأحفادهم وأقاربهم. لا يمكن لأقاربهم الحضور معهم أو زيارتهم وهم مصابون بهذه الجائحة التي تضرب العالم يوما بعد يوم. إذ وصلت لمس أكثر من مائة وستة وخمسين دولة. وموتاها فاقت الساعة آلالاف ولا أحد يعرف هل هو مرض طبيعي أو معدل جيني؟؟؟ هل هي من صنع أمريكا أو من صنع الصين؟ وكيف تفتك بأحد وتخلي سبيل الحياة للآخر؟؟؟ لماذا تصر على قتل المسنين ؟؟؟ وكأنها متعلقة بخدمة لمؤسسات التقاعد. التي أصبحت صناديقها تعاني من ثقل كبير بعدما تحسن معدل العيش في العالم وتمددت نسبة الحياة؟؟؟ كل مرة زار الموت أحدهم وهو على وشك المغادرة يصبح هادئ، تراه منهكًا، مستسلما لهذا الوباء الذي يخرب العديد من الأعضاء دون رحمة أو شفقة، لا يستطيع الحراك أو كأنه يتفهم الموضوع ويحسب نفسه أصبح ضيفًا ثقيلًا فلا ينتظر إلا مفارقة الروح لجسده الواهي والإلتحاق بالعالم الآخر الذي أبى هذه المرة إلا أن يستضيفه داخل جماعات متعددة… ”
استرسل يحكي دون أن أنبس بحرف لأن هول الأمر قد لبسني أنا التي لم أكن أثق فيما يحكيه الإعلام ولا ما تتوارثه مواقع التواصل الإجتماعية، فهمت أن الراوي طفح كيله وفاضت مشاعره ويبحث عن مستمع يبدي الاهتمام في عالم لا مكان فيه للوقت المهدور:
“ليلة أمس كانت في الغرفة جدة وحيدة مثل كل المرضى. أرادت أن ترى حفيدتها بإلحاح، توسلت إلي والدمع يطفو عينيها الغائرتين. لهجتها، بحتها، خفوت صوتها، كلماتها المتكسرة على شفتيها، رعشة اصابعها، اصفرار سحنتها كل شيء فيها دفعني إلى أن أسل هاتفي بحركة هستيرية وركبت الرقم الذي كانت قد تركته لي ابنتها في آخر زيارة لها. رن الهاتف كثيرا ولم أتلق أي جواب. فنظرت إليها نظرة يأس واستلام وكأني أقول في نفسي لقد فعلت ما علي، وتخلصت من تأنيب الضمير. فإذا بدموعها ترسم جسورا من المشاعر فاضت في صدري قبل وجنتيها وأدارت وجهها للحائط وكأنها استلمت لقدرها القاسي جدا. كل شيء كانت تصورته إلا أن تموت وحيدة مبعدة كالمجذوم، لم تخطر على بالها. أعدت الاتصال دون ان تطلب ذلك مني، مكالمة فيديو هذه المرة…
نظرت الى ابنتها وحفيدتها وراء الشاشة، ركزت النظر بعمق في وجهها والحفيدة تبكي وتصرخ وتدعوها للبقاء وكأن الأمر بيدها، ودعتها بنبرة متعبة ومتثاقلة، وبعد وقت قصير أغمضت عينيها والى الأبد. غادرتنا الجدة دون عناق ولا دموع تُذرف من حولها…”
نظر إلي كم يريد ختم مشهد مسرحي وعيناه مبللة بعبرات حبلى بالألم تلخص صراعات الأمل واليأس الحياة والموت والجمال والقبح. وتساءل معاندا: لماذا يحدث كل هذا!! ماذا فعل ابن آدم ليحصل كل هذا؟؟؟ ما هذه المراسيم الغريبة!!! ما هذا التحكم للموت!!! كل شيء يتطاير من بيننا، الأرواح والمشاعر والطقوس، كل شيء يتغير والى الأسوء… أضاف مسترسلا: لدي الآن قائمة طويلة من الأرقام، أحضنها وأحرس ألا تضيع مني، أسميها قائمة الوداع، سجلت عليها ارقام أهالي المرضى وأسرهم التي تنتظر التواصل معها في أي لحظة بات الموت وشيكا، و هم يظنون جازمين أن ذلك يبقى
كافيا، حتى لا يموت أهاليهم وحدهم”. ولكن هل سأقدر على الوفاء بوعدي لهم جميعا وأنا حين أخلد للراحة أستفيق وأنا مفتون لأهرع لأطل عليهم وأرى من غادر دون أن يعيش الوداع الأخير عن بعد عبر مكالمة فيديو!!!

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: