ليبيا: التراجع «الإنساني» لجنرال الهزائم!

على المراقب للشأن الليبي أن يكون مصاباً بمرض فقدان الذاكرة ليتمكن من هضم تصريحات الجنرال الانقلابي المزمن خليفة حفتر الأخيرة التي تبرر هزيمته الأخيرة في ترهونة أمام قوات الحكومة الشرعية باعتبارها «مبادرة إنسانية» من ميليشياته هدفها «حقن دماء الشعب الليبي»، وتسمّي انسحابه الكبير «إعادة تمركز».
على الجنرال، كي ينسجم مع تصريحات قواته هذه، أن يجعل العالم ينسى أنه بدأ هجومه الدمويّ على المناطق الغربية من ليبيا في 4 أبريل من العام الماضي، في الوقت الذي كان فيه الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش موجودا في ليبيا، برفقة مبعوثه غسان سلامة، يحضّران لتسوية سياسية بين الليبيين، وأن توقيت حركته كان مقصودا لمنع الجهود الأممية للحل السياسي، وهو أمر تكرّر في كل المحاولات الدولية والعربية اللاحقة التي كان الجنرال يتعامل معها بغطرسة مشهودة.
خلّف هجوم صاحب «المبادرة الإنسانية» آلاف القتلى والجرحى، وزرع جيشه الخراب في كل مكان عبر فيه، ولم يمرّ يوم منذ بدء الهجوم من دون قصف يستهدف المشافي والمطارات المدنية والبنايات السكنية ومراكز تجمع اللاجئين وحتى السفارات والمقرات الدبلوماسية، وحين قام أحد الضباط المقرّبين منه، محمود مصطفى الورفلي، بإعدام عشرات الليبيين وتصوير أفعاله علنا، وصار مطلوبا من المحكمة الجنائية الدولية، قام الجنرال بترقيته إلى رتبة أعلى.
لم تعرف في حفتر نزعات «إعادة التمركز» ولا «المبادرات الإنسانية»، فهو رجل يؤمن بالقوة العسكرية الغاصبة، منذ مشاركته في حركة معمر القذافي عام 1969، ومرورا بهزيمته وأسره في التشاد، حيث أصبح طريقه لإعادة السيطرة على ليبيا عبر العمل تحت مأمورية دول خارجية، منذ تسفيره إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1990 وعمله تحت أمرة «السي آي إيه»، ثم عودته إلى ليبيا بعد الثورة وعمله تحت إشراف الإمارات، ودعم مصر وفرنسا وروسيا.
يمثل التراجع الكبير لحفتر، الذي بدأ مع تحرير قاعدة «الوطية» الجوّية والساحل الغربي لليبيا في 18 مايو الماضي، ثم سقوط مدينة ترهونة أمس، تبدّلا كبيرا في موازين القوى داخل ليبيا، كما يؤشّر إلى خسارة كبيرة لمحور حفتر الإقليمي الذي تمثله الإمارات (التي خسرت مليارات الدولارات التي صرفتها على تسليح الجنرال)، ومصر (الغارقة في مشاكلها الكبيرة)، وكذلك خسارة لمحوره الدوليّ، الذي بدأ يعيد تقييم أوضاعه، بدءا من روسيا التي خسرت استقبلت وفدا من حكومة «الوفاق» مؤخرا، أو فرنسا التي قامت، على طريقة الجنرال، بالحديث عن خوفها على «الحل السياسي»، والمقصود طبعا «الحل السياسي» على طريقة باريس.
هزائم الجنرال الأخيرة ستكون بردا وسلاما على آلاف النازحين الذين سيتمكنون من العودة إلى ديارهم، ولسكان العاصمة الليبية الذين عانوا لقرابة 14 شهرا من القصف الهمجيّ لقوات الجنرال على الشعب الذي يدّعي الرغبة في تحريره، وقد تكون مقدمة، كما رأت الأمم المتحدة، لإحداث انفراجة في التسوية السياسية الليبية، ورغم قبضة الجنرال القابضة على عنق المناطق الشرقيّة، فإن هذه التسوية ستدفن أحلام جنرال الهزائم لأنها كانت محاولة لا تعيد الليبيين إلى دكتاتورية القذافي البغيضة بل إلى دكتاتورية أبشع تدار من عواصم الخارج.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: