صراع الأجندات في ليبيا يُعيد صياغة المعادلات في المنطقة

يطرح نزول الولايات المتحدة بثقلها في الملف الليبي بعدما حذرت من المزيد من تمدد النفوذ الروسي في هذا البلد، ما سيدفعها إلى نشر قواتها العسكرية في تونس، الكثير من الأسئلة حول قواعد الاشتباك مستقبلا في شمال أفريقيا. وتُدخل هذه التطورات، خاصة بعد أن نزلت أنقرة لدعم حكومة فايز السراج، منطقة شمال أفريقيا في لعبة أمم خطيرة بأهداف مُتناقضة سيكون مسرح الصراع بشأنها ليبيا.

تسمح التطورات المُتسارعة على مُجمل مسارات الصراع في ليبيا بقراءات مُتعددة تتجاوز في الكثير من جوانبها معادلات قواعد الاشتباك التقليدية، لتذهب إلى رسم جديد لا يتوقف عند حدود الجغرافيا الليبية بأبعاد إستراتيجية كسرت المسافات الآمنة في معظم المنطقة بعد سقوط قاعدة “الوطية” العسكرية بيد ميليشيات فايز السراج ومرتزقة رجب طيب أردوغان، الذي غيّر موازين القوى الميدانية في منطقة المثلث الحدودي الليبي – التونسي – الجزائري.

وأدخلت هذه التطورات مُجمل منطقة شمال أفريقيا بحزامها من دول الساحل والصحراء، في لعبة أمم خطيرة وسط تجاذبات واختبارات قوة بأجندات مُتباينة، وأهداف وغايات مُتناقضة، جعلت المشهد العام أمام تحولات سياسية، ومُتغيرات عسكرية نوعية، محكومة بمقاربات تستهدف إعادة صياغة المواقف بمبادئ إستراتيجية جديدة، تندفع نحو ضرب أسس الخطوط العريضة لعناوين التوازنات الإقليمية والدولية السابقة.

سيكون لتلك اللعبة كبير الأثر على سيادة تونس وأمنها القومي الذي تصدعت أركانه نتيجة الاختراقات العميقة الناتجة عن الاصطفافات الإخوانية المشبوهة التي بدأت مباشرة عقب ثورة يناير 2011 مع حكم “الترويكا” بقيادة حركة النهضة الإسلامية، التي أضعفت البلاد وحولتها إلى لقمة سائغة لغالبية القوى الفاعلة التي باتت تتهافت عليها لانتزاع حصتها منها تحت عناوين مختلفة.

مشهد جديد

ستيفن تاونسند: ندرس مع تونس طرق مواجهة القلق الأمني المشترك

لعل عودة الولايات المتحدة إلى التحذير من خطر التمدد الروسي في المنطقة، الذي دفعها إلى التلويح بنشر المزيد من قواتها العسكرية في تونس، تدل على أن المنطقة مُقدمة على مرحلة جديدة يصعب فيها ضبط إيقاعها بالنظر إلى حجم المصالح المتناقضة والعلاقات المُلتبسة مع مختلف القوى الفاعلة والمؤثرة ومنها بالتحديد فرنسا التي تراجع دورها تماما مثل إيطاليا التي فقدت مكانتها في المنطقة.

وكشفت القيادة العسكرية الأميركية بأفريقيا “أفريكوم”، أن الولايات المتحدة  تبحث استخدام أحد ألويتها للمساعدة الأمنية في تونس بدافع القلق من تنامي الخطر الروسي في ليبيا، لافتة في بيان نشرته مساء الجمعة، إلى أنه “مع استمرار روسيا في تأجيج لهيب الصراع الليبي، فإن القلق يزداد بشأن الأمن الإقليمي في شمال أفريقيا”.

وأكدت في بيانها الذي جاء بعد محادثة هاتفية جمعت مساء الخميس قائد “أفريكوم” الجنرال ستيفن تاونسند، بوزير الدفاع التونسي، عماد الحزقي “نحن ندرس مع تونس طرقا جديدة لمواجهة القلق الأمني المشترك ويشمل ذلك استخدام لوائنا للمساعدة الأمنية”.

وأثار هذا البيان في حينه تساؤلات عديدة وسط موجة غضب في تونس، ذلك أن التلويح بنشر لواء (أكثر من 3 آلاف جندي وضابط) من القوات العسكرية الأميركية على التراب التونسي، يعني إقامة قاعدة كبيرة تكون مقدمة للمزيد من استباحة الأمن القومي الذي عبثت به الأجندات الإخوانية المُريبة بحسب غالبية الأحزاب السياسية والقوى الوطنية التونسية التي سارعت إلى مطالبة الرئاسة بموقف رافض للتوجه الأميركي.

وأمام هذا الغضب، سعت القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا إلى التقليل من وقع ذلك التلويح بالقول في بيان توضيحي وزعته مساء السبت، إن لواء المساعدة الأمنية الذي تعتزم استخدامه “لن تكون له مهام قتالية انطلاقا من تونس بل ستكتفي بإرسال وحدة تدريب”.

وأضافت في بيانها أن “القوات المُشار إليها تتعلق بوحدة تدريب صغيرة ضمن برنامج التعاون العسكري مع تونس”.

غير أن ذلك لم يُبدد الشكوك حول اعتزام واشنطن تعزيز حضورها العسكري المباشر في تونس، خاصة وأن السلطات التونسية التزمت الصمت، علما وأن وزارة الدفاع التونسية كانت قد اكتفت في بيان نشرته في أعقاب المحادثة الهاتفية المذكورة بالإشارة إلى أن وزير الدفاع التونسي، عماد الحزقي، بحث مع الجنرال ستيفن تاونسند، قائد “أفريكوم”، السبل الكفيلة بتعزيز التعاون العسكري الثنائي.

ونقلت في بيانها عن قائد “أفريكوم” قوله إن القيادة العسكرية الأميركية بأفريقيا “على استعداد دائم لدعم القدرات العملياتية للمؤسسة العسكرية التونسية”، ثم أضافت أن الجانبين التونسي والأميركي “اتفقا على إعادة برمجة الأنشطة الثنائية بما فيها التمارين المشتركة والتي تأجل تنفيذها بسبب الوضع الاستثنائي الصحي”.

وبين بيان وزارة الدفاع التونسية، وبيان “أفريكوم” الأول قبل التوضيح، ثمة فارق لا يمكن أن تغفله الاستنتاجات التي تتداخل في تحديدها جملة من العوامل المُرتبطة أساسا بحسابات سياسية وأخرى عسكرية ناتجة عن الارتدادات والانعكاسات التي بدأت تتراكم على وقع المتغيرات التي تشهدها المنطقة في علاقة بعناصر موازين القوى السياسية والعسكرية التي تعددت منذ العدوان التركي المتواصل على ليبيا.

صراع المصالح

على هذا الأساس، تتفق مُجمل القراءات على أنه لا يُمكن بأي حال من الأحوال فهم هذا التلويح الأميركي المُتعلق بتونس، في هذا التوقيت بالذات، خارج إطار معادلة صراع المصالح الذي حل مكان تقاسم النفوذ الذي ساد المنطقة خلال السنوات الماضية، وهو بذلك ليس بريئا، ولا يمكن أن يكون كذلك، بغض النظر عن التوضيح الذي جاء في سياق التأكيد على الأجندات الأميركية التي عادة ما تترك هامشا كبيرا من الافتراضات الموازية.

علاقات تونس مستقبلا مع الجارة ليبيا لا بد أن تأخذ بعين الاعتبار الدور التركي بكل تفاصيله عدوانا واحتلالا وأجندة إخوانية

وتُحاكي تلك المعادلة بمفردات خطابها وإيقاعها الميداني الواقع الأمني الراهن في المنطقة الذي بات ينزلق بسرعة نحو مربعات من التوتر تحت عناوين عامة أبرزها “محاربة الإرهاب” وما يتصل بها، التي تبقى المدخل الأفضل لأي تدخل أجنبي، وذلك بعد فشل التحركات السياسية التي عجزت عن تبديد القلق، وتفكيك التباينات الحادة بين فرقاء صراع المصالح الذي اقترب كثيرا من تونس.

وتُعيد التفاصيل المُلحقة بهذا الصراع إنتاج عوامل إستراتيجية لتحالفات جديدة بدأت تتشكل على وقع هذه المُتغيرات التي يُخشى أن تعصف بخيارات تونس التي كانت حتى وقت قريب تحول دون انتكاسة تحالفاتها الخارجية، وتحديدا حين يتعلق الأمر بجارتها ليبيا التي باتت العلاقة معها تأخذ صيغة البحث عن مسوغات جديدة ارتباطا بالدور التركي عدوانا واحتلالا، وأجندة إخوانية.

ودون هذا التوجه، لن يكون بمقدور تونس تقليص مساحات المفاجآت التي تُحيط بها من كل جانب، وهو أمر يستدعي دون شك التركيز ليس فقط على صمامات الأمان، وإنما أيضا التركيز على فهم الوضع الإستراتيجي الإقليمي والدولي انطلاقا من تخطيط إستراتيجي يقوم على أساس الابتعاد قدر الإمكان عن المشروع الإخواني لتفادي مختلف المخاطر والتحديات التي تواجهها.

علاقات تونس مستقبلا مع الجارة ليبيا لا بد أن تأخذ بعين الاعتبار الدور التركي بكل تفاصيله عدوانا واحتلالا وأجندة إخوانية

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: