لماذا لن تتوقف حرب الهويات في الجزائر؟
أشعلت معركة الدستور، كما كان متوقعا، حرب الهويات من جديد في الجزائر. حرب لم تتوقف عمليا، حتى إن خفّت حدتها في بعض الأحيان. تم إفشالها في محطات أخرى، كما حصل ذلك أيام صعود الحراك، الذي اشتعلت فيه بقوة هذه الحرب، بعد مسلسل منع الراية الأمازيغية وقمع حامليها، الذي قررته السلطات العمومية، كوسيلة اختراق هوياتي للحراك الشعبي، نتيجة فشلها في اقتراح بدائل وإجابات سياسية، طالب بها الحراك الشعبي.
حراك، عبّر عن قوة تلاحم الشعب الجزائري قبل – بعد تردد لفترة قصيرة – بوجود الراية الأمازيغية في مسيرات الكثير من المدن الجزائرية، التي لم يتعامل معها رمزيا كراية منافسة للعلم الوطني، بل كراية ثقافية لا تعني الجزائريين وحدهم، بل كل مواطني الشمال الافريقي، الذين تبنوا هذا الرمز الثقافي، بدون مزاحمة للرايات الوطنية، في كل دول المنطقة.
عادت المعارك الهوياتية هذه الأيام بحدة أكبر، قبل حتى الشروع، في نشر مسودة التعديلات الدستورية، التي تم التشويش عليها بتسريب نسخ غير رسمية، كان الغرض منها الزيادة في حدة معارك الهوية، التي تخصصت في إشعالها أطراف معروفة داخل الساحة الثقافية والسياسية في الجزائر. تسريبات ادّعت المس بتلك المواد التي تتكلم عن هوية الجزائر المفصول فيها شعبيا ورسميا، والتي لم تكن معنية أصلا بالتعديلات الدستورية المعلن عنها. حرب هويات كانت قد انطلقت معاركها الأولى داخل الوسائط الاجتماعية، بمختلف أنواعها ـ الفيسبوك على رأسها ـ ارتبطت بشحنة كبيرة من الكراهية والتشكيك المتبادل بين الجزائريين، استعمل فيها كل ما هو متاح من أدوات حرب، كالتاريخ والثقافة واللغة والرموز، وغيرها من وسائل حرب الهويات. تخصصت في إشعالها أطراف عدة على رأسها بعض القوى السياسية والفكرية، التي تيقنت من أنها خسرت معركة تعديل الدستور، التي كانت تنوي أن يعود بالنقاش في الجزائر الى ما قبل تعديلات 2016 التي فصلت في مسألة رسمية ووطنية اللغة الأمازيغية.
قوى سياسية كانت تنوي مقايضة موقفها المؤيد لانتخاب الرئيس تبون، والمشاركة في العملية الانتخابية التي قاطعتها، قوى سياسية وشعبية عديدة، بإعادة النظر في الموقف من دستورية اللغة الامازيغية، فحصل العكس تماما. تم تكريس اللغة الأمازيغية في التعديل الدستوري، الذي تبناه ودافع عنه المقاطعون للانتخابات. شعور بالخسارة السياسية، بل النكسة، زاد في حدة معارك الهوية التي تهدف الى خلط الأوراق على الساحة السياسية، في هذا الظرف المضطرب الذي تعيشه الجزائر. قوى سياسية معادية لدسترة اللغة الامازيغية، نجد التعبير عنها حاضرا بقوة لدى أجيال صغيرة في السن، من أبناء الجامعات الجزائرية، تخرجوا منها وهي تعيش أحلك أيامها في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، عرفت فيه مستوى انغلاق وتدهور في الأداء رهيبين، بعد انتشارها في المدن الصغرى والمتوسطة، بين قوى اجتماعية شعبية فقيرة في الغالب، ثقافيا وحتى اقتصاديا، خرجت مباشرة من الأمية، نحو مقاهي الإنترنت. لم تعرف مرحلة الكتاب التي قفزت عليها لتنطلق من نقاشات المقاهي، في القرى الصغيرة الى رحابة العالم. سمحت لها به التكنولوجيا الجديدة، المنتجة من قبل هذا الغرب «المتفسخ أخلاقيا» المعادية له على مستوى الخطاب.
شعور بالخسارة السياسية، بل النكسة، زاد في حدة معارك الهوية التي تهدف الى خلط الأوراق على الساحة السياسية الجزائرية
قوى سياسية مازالت سجينه الوطنية الجزائرية المعروفة بعدم تجانسها الفكري، التي حاولت التوفيق فيه تاريخيا، بين الاسلام كفكرة كونية، والعروبة وهي تعيش حالة صعود، وبعض ما استطاعت الوصول إليه من فكر سياسي يساري، نتيجة احتكاكها في ديار الهجرة ـ فرنسا- بالحركة العمالية والنقابية، رغم بقائها مترسخة داخل ثقافتها الريفية، التي نجحت في الحفاظ على استمراريتها، في قلب باريس.
توليفة فكرية انتقائية، أنجزت ما كان مطلوبا منها إنجازه، بعد أن حققت الاستقلال السياسي للبلاد وبناء الدولة الوطنية، لكنها لم تعد قادرة على المزاحمة والتجنيد فتقهقرت وبانت عيوبها، وهي تعيش حالة كسل فكري، لم يعد يسمح لها بالتطور والانفتاح على العالم. هي التي عرفت على الدوام بفقرها الفكري وغياب العنصر المثقف عنها، فشلت في تجنيده، إذا استثنيا بعض الحالات النادرة، التي تؤكد قاعدة الفقر الثقافي لهذه الوطنية الشعبية، الذي تؤكده شعاراتها، كما ظهر مع بدعة الباديسية ـ النوفمبرية، في الآونة الأخيرة. وطنية لم تتقدم فكريا وسياسيا إلى الأمام، فتقهقرت إلى الوراء، زادها استفحالا أزمة التيارات الفكرية والسياسية، التي كانت تغترف تاريخيا منها، كالإسلام الذي عاشت بعض تياراته، لوقت قريب حالة تنمر، لم تساعدها كثيرا على الاقتراب منه، والعروبة المأزومة، بعد خيباتها المتكررة، واليسار الذي دخل في أزمة وخمول فكري، لم يعد قادرا على العطاء، لتظهر على السطح تلك القوى السياسية والفكرية اليمينية المتطرفة التي كونت البديل الجديد أمام هذه الوطنية المعاقة فكريا. وطنية لم تجد أمامها كحلول إلا الخطابة السياسية الفارغة والغلو والشوفينية، بعد ازدياد حدة خوفها من الآخر المختلف. تطور مع الوقت للبروز على شكل قراءة عرقية سائدة، وبحث عن نقاء عرقي، في غياهب التاريخ البعيد، وفي الحاضر الذي تخصصت في البحث داخله، عن عرب أقحاح وأمازيغ اشاوس، كذّبت وجودهم تحاليل الحامض النووي بهذا الشكل النقي، الأقرب لمنطق القراءة العنصرية، التي تجاوزتها الشعوب في ممارساتها اليومية وهي تبني نفسها.
أزمة الوطنية الجزائرية التي تعيد إنتاجها هذه الأجيال الشابة من الجزائريين، المنغلقين على ذواتهم، هي التي تجعلنا نقول إن حرب الهويات مازالت أمامنا، ولم تعد وراءنا، كما قد توحي بذلك بعض المحطات التي خفت فيها صوتها. انطباع خلقه وساهم فيه نوع من التناغم، مع ما هو منجز من تحولات ديموغرافية وسوسيولوجية على أرض الواقع، منذ عقود، ما يؤشر في بعض الأحيان إلى أننا أمام معارك لا تعيشها إلا بعض النخب المعزولة، غير القادرة على التجنيد الشعبي، كما تبين ذلك أثناء الحراك الشعبي. حاضرة أكثر على مستوى الوسائط الاجتماعية وبعض وسائل الإعلام، بين أبناء بعض الجهات الجغرافية فقط، يفسرها التاريخ الثقافي، وحتى السياسي المتنوع للظاهرة الجهوية في الجزائر، بكل عدم التجانس الثقافي الذي لم تنجح تماما الدولة الوطنية بعد الاستقلال في القضاء عليه، لا عن طريق نشر التعليم، ولا عن طريق ما حاولت الترويج له مؤسسات الهيمنة الثقافية، من رموز وطنية موحدة.
وطنية مازالت في أمس الحاجة إلى تجديد عقائدي، بالانفتاح على التراث الإنساني في المقام الأول والاستفادة من إيجابيات ما تم تحقيقه حتى الآن من منجزات وطنية كثيرة، على رأسها انتشار التعليم، وتحرر المرأة والشباب الذي يجب ألا يتحول الى جسر لنشر حرب الهويات بين الجزائريين.