دستور أم كراس لمحاولات الرؤساء الجزائريين؟
يقول بلعيد محند أوسعيد الناطق الرسمي باسم رئاسة الجمهورية الجزائرية إن الغاية من توقيت مناقشة التعديلات الدستورية في هذا الوقت هي من أجل ملء أوقات الحجر الصحي. لما قرأت هذا الكلام على شريط أخبار التلفزيون الرسمي الجزائري، تساءلت عما إذا كان التطرق لأهم وثيقة في البلد على الإطلاق قد تحوّل مع هذه السلطة وناطقها الرسمي إلى مجرد تمضية للوقت في وقت الفراغ؟ وفي الحقيقة لم تكن ضربة البداية أسلم إذ في أول خرجة إعلامية في الموضوع تحدث مستشار آخر في رئاسة الجمهورية، محمد لعقاب، عن “مسودة الدستور” بدل المشروع التمهيدي، فكأنه يتحدث عن كراس محاولات؟
وبغض النظر عن الخطاب السياسي الهاوي معنى ومبنى، ما هي الظروف التي يجرى فيها النقاش حول المشروع التمهيدي المقترح؟ وهل تريد السلطة نقاشا حقيقيا للوثيقة من قبل المجتمع المدني، أم هي مجرد مناورة سياسية واستغلال ظرف كورونا لتثبيت نفسها وتجاوز الثورة السلمية التي انطلقت في 22 فبراير 2019 وطالبت بتغيير النظام جذريا؟
في الحقيقة بات تغيير الدستور تقليدا لنظام الحكم، فلكل رئيس جزائري دستوره الخاص وفي كل مرة لم تكن دوافع التعديل إصلاحية وإنما لأهداف أخرى أهمها محاولة الحصول على شرعية استفتائية بعد فقدان الشرعية الانتخابية، أو بحثا عن شرعية سياسية بعدما سقطت الشرعية التاريخية.
لقد حكم الرئيس هواري بومدين على سبيل المثال 11 سنة من دون أن ينتخبه جزائري واحد، وفي عام 1976 جاء بفكرة الميثاق الوطني وتم الاستفتاء والمصادقة بالطرق المعروفة آنذاك في الأنظمة الستالينية. وبعده جاء الشاذلي بن جديد وحكم بالقوة كسابقه، ومع انخفاض أسعار النفط واستفحال الأزمة متعددة الأبعاد، اندلعت الانتفاضة الجزائرية سنة 1988 وأحرق الشبان مقرات الحزب وقتل منهم أكثر من مئتين، وأمام الغضب الشعبي اضطر النظام إلى قبول التعددية في دستور 1989 الذي سمح بظهور الجبهة الإسلامية للإنقاذ ومعها العشرية السوداء. أما عبدالعزيز بوتفليقة فقد فصّل الدستور الجزائري على مقاسه، فتح العهدات وأوصد بابها كما أراد.
وكنا نأمل أن تتغير الأوضاع بعد انتفاضة الجزائريين ضد العبث السياسي المزمن، ولكن لا شيء تغير فلا يزال النظام في طبيعته البدائية. عبدالمجيد تبون يحاول خلع صفة الرئيس المعين التي تلازمه وذلك عن طريق تنظيم استفتاء يتجاوز به مهزلة انتخابات 12 ديسمبر 2019 التي عيّن على إثرها رئيسا رغم المعارضة الشديدة والمقاطعة الشعبية والحزبية الواسعة. ولا يزال النظام كعادته يهرول إلى تعديل الدستور كلما تأزمت الأوضاع السياسية، فكأن الدستور هو مشكل الجزائر المزمن.
ومع ذلك لم يوفر تبون أدنى الشروط من أجل نقاش حر جدي ومثمر. بل العكس هو الحاصل. وما اختيار هذا التوقيت لطرح المشروع التمهيدي للنقاش إلا من أجل استغلال الوضعية الصحية الحرجة لتمرير ما يريد تمريره، في انعدام كامل للشفافية والجو السياسي المناسب. فحتى الوثيقة لم توزع سوى على الأحزاب ووسائل الإعلام والشخصيات الموالية للنظام، ولم تنشر “المسودة” في موقع الرئاسة الإلكتروني المعطل هذه الأيام، ولا أثر للنص في موقع رئاسة الحكومة أيضا.
كيف يمكن الحوار والنقاش في زمن الحجر الصحي والصوم والتجمعات ممنوعة والخروج محدد من الساعة الخامسة زوالا إلى السابعة صباحا؟
نحن نعرف أن كل هذا ما هو إلا مسرحية، فللنظام ورقة طريق بدأ يطبقها شيئا فشيئا غير مكترث بالرأي الآخر، بل يعمل على خلق جو من اللاطمأنينة عبر الاعتقالات والحبس والتضييق واستدعاء الكثير من نشطاء الحراك وغلق المنابر الإعلامية المستقلة وتوقيف الصحافيين الأحرار القلائل، وملاحقة الشبان الذين يعبرون عن آرائهم على مواقع التواصل الاجتماعي، علاوة على تدجينه لوسائل الإعلام العمومية والخاصة المرئية والمكتوبة التي أصبحت تشبه تلك التي كانت تحت حكم الحزب الواحد.
أما إذا عدنا إلى محتوى النص المقترح، فأعضاء لجنة الخبراء الذين أعدوه قد أفصحوا عن كنهه منذ البدء إذ أكدوا في الديباجة أن “اللجنة لم تكن مهمتها اقتراح تغيير النظام”. فالمسألة لا تعدو إذن أن تكون مجرد تعديل يكرس الأمر الواقع، وإيجاد بعض التوازنات بين السلطات كي لا يتكرر ما عاشه النظام من تناقضات وصراعات داخلية فجرها الحراك الشعبي.
متى يفهم النظام أن أزمة الشرعية التي يتخبط فيها منذ الاستقلال لا يمكن أن تحل عن طريق الحيل الإصلاحية والمناورات؟ الدستور الذي يريده الجزائريون هو ذلك الذي يأتي عبر نقاش واسع بينهم عبر مؤسسات منتخبة ديمقراطيا ويكون عقدا اجتماعيا بينهم لا منة من سلطة فاشلة مفروضة عليهم.