حميد المصباحي: لكل روائي سر يخفيه عن النقّاد
لكاتب المغربي يرى أن الروائي وحده القادر على تأمل المعنى والتشكيك فيه في الوقت نفسه دون أن يصير فيلسوفا أو زاهدا متصوفا
قبل أن يمارس الكاتب المغربي حميد المصباحي الكتابة الروائية اشتغل أستاذا للفلسفة وباحثا في النقد الأدبي والكتابات الفكرية، وقد حاورته “العرب”، لتستطلع ما تزخر به خبرته حول آفاق السرد الروائي من خلال مقاربته الثقافية والسياسية والحقوقية والفنية، والتي يحاول ترسيخها في كتابة تمثل عنده مشروعا لا نصا فقط.
تركز أعمال الروائي حميد المصباحي على الإنسان في كل أبعاده الوجودية الكونية والمحلية، والتي تتلاقى فيها روافد عديدة تتمثل في فلسفة الموت والحياة مع تفكيك ما يزخر به الواقع المغربي والعربي من متناقضات شاملة للشر والخير والنور والظلام، وقد أسعفه في ذلك تمكنه من تقنيات وأدوات السرد في توليفة من الإبداع والجمال في اللغة والتناول.
ويعترف المصباحي بأنه في عمليات الإنجاز للعمل الروائي يطور آليات اشتغاله، وبذلك فليست له طريقة واحدة للكتابة، فالروائي هو المحدد كما أنه ليس المسيطر المطلق على كل اختياراته إذ هناك ثقافته بما هي شعور ولاشعور أيضا.
مشروع متكامل
بعد الوقوف على عناوين معينة من روايات حميد المصباحي “غرف الموت”، وإعدام ميت”، و“ضفاف الموت، موت المجنون”، و“موت المهاجر”، تجد تيمة الموت تتكرر حتى أنه يخيل إليك أن هناك علاقة جدلية تربط بين الصيرورة والزمان واللغة، مع انحياز إلى الموضوع الفلسفي في فلسفة الموت والحياة.
وكإجابة لا تقل غموضا عن المتن الروائي، يقول حميد المصباحي “ربما لذلك اخترت تيمة الموت، ليس تخويفا أو تيئيسا، بل تذكيرا بأن قصر الحياة، يحتم علينا تحصيل السعادة بكل السبل ولو كان موتا وتضحية، وهنا أظن أنني أعطيت للموت دلالة جديدة”.
ولكي يعطي بعده الخاص لهذا التصور، يؤكد المصباحي أنه اختار الكتابة بما يسميه مشروعا روائيا متكاملا، يظهر جليا في تيمة الروايات الأربع، فرواية “غرف الموت”، 1977، كانت رواية سياسية، وكأنها تنبؤ بما عرفه العالم العربي من هزات سياسية، وفي نهايتها كانت الحرب الأهلية. ويضيف الروائي المغربي، أنه في العام 2003 صدرت له رواية “إعدام ميت”، تتحدث عن الفساد الذي طال المؤسسة الأمنية وحتى العسكرية، ربطها النقاد بأحداث العميد ثابت، ولم ينف ذلك، بل فقط صمت الكاتب، لاعتبارات كثيرة غير سياسية.
على الروائي ألا يخضع إلا لضرورات إبداعه الخاص بعيدا عن الخضوع والامتثال للنماذج التي نوه بها النقد
وفي سنة 2012، صدرت له رواية “موت المجنون”، هنا كان الفكر الفلسفي مكثفا، حيث يؤكد المصباحي أنه تناول الهوية، وما يعتريها من أوهام، وما تشكله من خطر على الأوطان إذا ما ربطت بالعرق أو الدين، وهو ما عاشه عالمنا العربي من هزات لعبت فيها الهويات الإسلامية دورا حاسما، بل مضى بالتغيير في اتجاهات مختلفة، وأحيانا مخيفة.
ويسترسل المصباحي قائلا “هنا وجدتني أكتب رواية بشكل مغاير، لغة وعالما ليس غرائبيا ولا عجائبيا، إنه شكل أسطوري، يحتفي بالتاريخي ويكشف عن أبعاد مريبة فيه، تعني المغرب، بتجربة الأولياء والدراويش كما هي في بعض الدول العربية”.
وأخيرا رواية “رحل بعد عودته”، والتي كانت في الأصل الجزء الثاني من “موت المجنون”، فنشرتها سنة 2018 دار الفاصلة، مستشرفا أنه سوف يختم المشروع بأموات آخرين، دون أن يكشف عن العنوان، لينتقل من بعد إلى مشروع آخر عناوينه تبدأ بـ”العهر”، و”نبل عاهرة” و”عاهرة في العاصمة”.. إلخ.
ويوضح المصباحي أن عوالم رواياته تنطلق من تعرية القهر بكل أشكاله، بما هو حرمان أو تهميش أو خنق للحق في الحياة والمتعة والحرية، فالرواية عنده متعة ووعي، أو وعي فيه متعة، كما أنها تحفيز على التفكير في الوجود الفردي والجماعي لكل المجتمعات وخصوصا المغاربية والعربية.
تيمة الغموض يشترك فيها الروائي مع الرسام التشكيلي، فهذا الأخير تجد رسومات في لوحاته توحي بالكثير دون أن تقول شيئا واضحا بما يكفي، يؤكد حميد المصباحي، وكأنه يخط بريشته صورا لم يدركها إلا هو في ما رآه ويهرب من التعبير عنه بغير ألوانه وأشكاله.
الروائي كما يصوره المصباحي، يحمل معه الضجيج إلى غرفته المظلمة، يقلبه على كل وجوهه باحثا عما لا يريد التصريح به، فلكل روائي أسراره الخاصة وأسرار الروائيين غير متشابهة. هي تلك الدوافع الخفية التي لا يكتشفها الروائي إلا بعد الانتهاء من كتابة روايته وربما مجموعاته الروائية، يظهر ذلك جليا تجاه النقد الأدبي.
ونجادل بأن الفلسفة مجال واسع يستنطق الفيلسوف موضوعاته وينقب في المفاهيم بلغة العقل التحليلي عكس الفضاء الذي تتحرك فيه السردية الأدبية المتمركزة حول ذات الكاتب الروائي فاتحا الطريق أمام كل ما هو تخييلي. وكدارس للفلسفة، يقول المصباحي، أجدني منخرطا في ما هو فني وأدبي، فالفلسفة يعنيها الجمال، وهو أحد قضاياها، سواء كان شعرا أو خطابة أو رواية، مستدركا أن قواعد الأدب لها حضورها وعلينا احترامها، بل والاجتهاد فيها بما يسمح باجتراح أسلوب جديد في الحكي أو الشخوص.
![تعرية القهر بكل أشكاله](https://i0.wp.com/i.alarab.co.uk/s3fs-public/inline-images/book_118.jpg?w=1170&ssl=1)
ويتعمق المصباحي، شارحا أن الروائي يستمد القدرة على الترميز من تاريخه غير المصرح به لذاته ولغيره من الناس، وهي قدرة الروائيين الحقيقيين، موضحا أن الروائي من هذا الصنف تنشأ روايته في صلب عواطفه قبل أن ينضدها وتصير قابلة للنشر.
ويرى أن الروائي وحده القادر على تأمل المعنى والتشكيك فيه في الوقت نفسه دون أن يصير فيلسوفا أو زاهدا متصوفا، فهو مهووس بكل ما لا يثير الناس عادة، إذ هو يدرك صيرورة المعاني دون أن يتحكم فيها، فيستبق التعبير عنها دون يقين حتى لا يتحول إلى كاهن أو سياسي ذي طموح أيديولوجي يوهم غيره بكونه سيد أسرار اختطفها من السلطة العليا دينية كانت أو دنيوية.
والجديد في العمل الروائي يبرز بالإنصات لما يختلج داخل الذات أولا لنفهمها ولا نقطع عنها تأملها الخاص القادر على التجاوب مع العصر دون إكراه؛ فالفعل الإبداعي كما يراه المصباحي، يكون أكثر أصالة إن أضاف ما يناسب واقعه ويخدمه فنيا وجماليا، ويلح على ضرورة الانفتاح على الأدب الصيني والهندي والكوري والأميركي اللاتيني، بل والأفريقي رغم شفويته فهو قابل لإعادة الكتابة.
الناقد والروائي
غالبا ما يلجأ النقد المغربي حين مقاربته للرواية في المغرب إلى تحقيبات افتراضية تنهل من التاريخ السياسي للمغرب، بحيث تجد الرواية في مرحلة الاستعمار وتليها الرواية بعد الاستقلال، مع بعض التمايزات في ما يخص الرواية السيرة أو رواية السجن، بحيث تبدو هذه التحقيبات تابعة لما هو سياسي كحدث وتاريخ.
ويعتقد المصباحي أنه من خلال غموض نصوصه يخيب انتظارات النقاد الذين يعتبرون أنفسهم قادرين على فك رموز الفكر في الكتابات الروائية القديمة والحديثة، لكن الحقيقة كما قيل أحيانا لا تظهر إلا متأخرة حتى للروائي نفسه. وهو تجاه كتاباته الأدبية والفنية قد ينسى معها الغايات الأولى، أي تلك الفكرة العامة والخطاطة التي وضعها قبل بداية الكتابة الروائية.
لقد حظي موقع الراوي في الخطاب الروائي باهتمام النقاد والمبدعين على حد السواء، وذلك لأهميته، في الخطاب الروائي. وعليه فهناك من يرى أن روايات حميد المصباحي تندرج في سرديتها ضمن خصوصية المرجعية الفكرية التي ينهل منها كمناضل سياسي.
ويؤكد المصباحي أن ثيمات الرواية عنده ليست مجرد صدى للسياسة بل هي اختيار حر للروائي أولا، وهو الذي يحدد كيفيات التفاعل مع محيطه وتاريخه، ولا يمكن فهم صيرورة الرواية بأحداث المجتمعات والدول مهما كانت قوة تأثيرها. بل يمكن أحيانا من خلال الروايات فهم أبعاد التاريخ السياسي والاجتماعي، وإلا صار الأديب منفعلا وانعكاسا لتاريخ غير تاريخه الخاص ينطبع به، فيغدو مجرد ظلال لحقائق أكثر عمقا مما يبدعه الروائي من روايات.
ويوضح المصباحي في هذه النقطة أنه عندما يشعر الروائي بقرب النقد مما يعتبره سرا، يدرك أن نهايته اقتربت، أي موته الإبداعي. ربما لهذا السبب يسعى كل روائي إلى أقصى درجات الكتمان وإبداع أعمق الرموز وأكثرها غموضا وعمقا في تاريخ الوجود البشري، لتصير بالنسبة إليه كلمة السر التي لن يبوح بها لأحد، بل إنه يتعمد أحيانا إخفاءها حتى على نفسه، حالما بأن ينساها إلى الأبد كي لا يتعمق في سره الخاص.
يحاول النقد الأدبي أن يقوم بدوره، أي تفسير الرواية كعمل فني للكشف عن أبعادها الجمالية في التعبير والصياغة، أي أسلوب الحكاية وشخوصها. لكن على الروائي، كما يؤكد المصباحي، ألا يخضع إلا لضرورات إبداعه الخاص بعيدا عن الخضوع والامتثال للنماذج التي نوه بها النقاد واعتبروها إبداعا خارقا على الكل أن يسعى لتمثله والتعبير عنه بطرقه، لأنها نالت إعجاب الآخرين وعلينا أن نعجب بها نحن أيضا.
وعادة ما ينشد الروائي التميز باختلافه عن السائد معتقدا أن الحديث أكثر فاعلية وحضورا، وكأن الجدة غاية في ذاتها، فأن تكتب رواية جميلة، كما يقول المصباحي، معناه أن تعتمد آخر آليات الكتابة الروائية مع أن هذه القصدية تحول الإبداع الأدبي إلى حرفة تنتج تحت طلب الموضة، ربما طمعا في الترجمة أو إرضاء للنقد المغربي الذي لا يجيد بسبب عدته إلا ما نسج على منوال الرواية الغربية ناسيا أن المدارس النقدية هناك كانت مسبوقة بالإبداع الروائي وقد تأسست بالاستفادة منه.