منطقة القبائل الجزائرية من صراع الهوية إلى معركة التغيير الشامل
بعدما ظلّت منطقة القبائل تناضل منذ عقود لترسيخ هويتها الأمازيعية في الجزائر، تحوّلت المنطقة بعد إسقاط نظام عبدالعزيز بوتفليقة إلى أشبه بمختبر تصاغ فيه توجّهات الحراك الجزائري في ظل طموح السلطة لوأده عبر توظيف مقاومة وباء كورونا. واللافت في تحركات سكان منطقة القبائل أنها غيّرت أجنداتها ليتحول هدفها من خوض حرب هووية إلى صراع سياسي لإحداث تغيير شامل قوامه دولة مدنية تحترم الأقليات دون تمييز في الدين أو العرق.
الجزائر – تتجه حركية الشارع القبائلي في الجزائر إلى الانتقال من مرحلة النضال الهوياتي إلى النضال من أجل التغيير السياسي في إطار المد الأفقي للاحتجاجات السياسية التي تعم البلاد منذ أكثر من عام، ولم تعلق إلا تحت طائلة جائحة كورونا، لتثبت مع مرور الوقت دخول المنطقة في صلب التحول إن لم تكن القاطرة التي تقوده، حيث لم تعد تغريها مكاسب الهوية المحققة وباتت تطمح إلى تغيير سياسي شامل في البلاد.
أوحت المسيرة الشعبية التي نظمها سكان بلدة تيزي غنيف في محافظة تيزي وزو (عاصمة القبائل)، خلال الأسبوع الماضي، احتجاجا على حملة التوقيفات الجماعية لناشطي الحراك الشعبي، رغم قرار الحظر المطبق من طرف السلطة للتظاهرات الجماعية، وتعليق الحراك الشعبي لمسلسله الاحتجاجي، إلى أنها تشكل امتدادا للتجمع الشعبي الضخم الذي احتضنته بلدة خرّاطة التاريخية، أياما قليلة قبل بداية فعاليات الحراك الشعبي.
وأعطت الانطباع على أنه كما كسر تجمع خرّاطة في 14 فبراير 2019، جدار الصمت الذي فرضه نظام بوتفليقة على الجزائر طيلة عقدين كاملين، وكما كان الجذوة التي أشعلت مسلسل التمرد السلمي على السلطة بعد يأس عميق خيم على المجتمع الجزائري من إمكانية إحداث التغيير السياسي المنشود، يمكن أن تكون مسيرة تيزي غنيف محطة إعلان نهاية صبر الشارع الجزائري على مخططات السلطة للانقلاب عليه.
من خرّاطة إلى تيزي غنيف
تبقى منطقة القبائل الجزائرية بؤرة صداع حقيقي للسلط المتعاقبة في البلاد، حتى في ذروة نظام الأحادية السياسية والأيديولوجية، وتوحي المعاينات الأخيرة إلى أنها بصدد التحول إلى مصدر الإلهام الأول لعموم ربوع البلاد، التي باتت تستنسخ تجربة سكان المنطقة من أجل تحقيق مطالبها المتنوعة. ويرى الكاتب والباحث السياسي أحسن خلاص، بأن “هناك عوامل ومعطيات تاريخية وسوسيولوجية بارزة، جعلت أبناء منطقة القبائل يساهمون مساهمة حيوية في عدة مجالات ميزت تاريخ الجزائر القديم والمعاصر”.
واعتبر في تصريح لـ”العرب” أن “هؤلاء شكلوا ما يقارب 40 في المئة من الهجرة الجزائرية إلى الغرب وخاصة إلى فرنسا حتى قبل بداية القرن الماضي”، في إشارة إلى تراكم الخبرات السياسية والاجتماعية لسكان منطقة القبائل مع المجتمعات الغربية التي قطعت أشواطا كبيرة في إرساء قواعد الأنظمة الديمقراطية.
واستدل المتحدث على ذلك بكونهم “شكلوا غالبية التركيبة البشرية للحركة الوطنية، التي ناضلت من أجل استقلال الجزائر قبل ثورة التحرير المسلحة، على غرار حزب نجم شمال أفريقيا، فضلا عن انخراطهم في مختلف التيارات السياسية والإصلاحية التي واجهت الاستعمار الفرنسي”.
وذكر في هذا الشأن، بأنهم “قدموا نسبة معتبرة من قادة الثورة التحريرية، منهم أكثر من 12 عقيدا (أعلى رتبة آنذاك) من ضباط جيش التحرير الوطني وقادة بارزين في جبهة التحرير الوطني التاريخية، على غرار حسين آيت أحمد، عبان رمضان وكريم بلقاسم، الذي وقع عن الجانب الجزائري على اتفاقيات إيفيان، المفضية لتنظيم استفتاء تقرير المصير، كما شكلوا جزءا هاما من نواة المخابرات الجزائرية خلال الثورة وبعد الاستقلال”.
يبدو أن الشارع القبائلي بصدد وضع الخطوط الأولى لمشروع تحول لافت في نضال المنطقة والجزائر عموما، فالفتيل الذي اشتعل في نهاية أربعينات القرن الماضي، على خلفية الرسالة التي خطها المناضل البارز مصالي الحاج إلى منظمة الأمم المتحدة للمطالبة باستقلال الجزائر، بصدد الخفوت تماما في ظل مؤشرات الانتقال من نضال الهوية إلى نضال التغيير السياسي.
ويرى الباحث والمؤرخ محمد أرزقي فراد بأن “رسالة مصالي الحاج الشهيرة أثارت امتعاض مناضلين في منطقة القبائل آنذاك، ولم يكن للفتيل أن يشتعل لولا بعض المتنطعين في الطرفين، وتفطن الاستعمار لتغذية الصراعات الإثنية في المجتمع من أجل تفكيك النضالات المستمرة ضده”. وخلص في تصريح لـ”العرب” إلى أن “مسألة الهوية سوّيت بعد افتكاك الاعتراف والدسترة والترسيم، ويبقى الكيف والبعد الحضاري الذي تجسد به، بين أنصار التوجه والخط اللاتيني وبين أنصار الخط العربي”.
ويبدو أن إكراهات وباء كورونا الموصول بقرار الحكومة القاضي بحظر التظاهرات الجماعية، تتجه إلى الاختراق في ظل تصاعد الأصوات الداعية إلى صياغة جديدة للاحتجاجات السياسية في ربوع المنطقة تنديدا بتوسع دائرة الاعتقالات الجماعية للناشطين والمعارضين خلال الأسابيع الأخيرة.
ورغم تقديم السلطة لمكسب مجاني جديد للمكون الأمازيغي في الدستور الجديد، عبر مقترح جعل بند الهوية الأمازيغية بندا غير قابل للمراجعة أو التعديل، إلا أن تحول الشارع القبائلي يبدو أنه تجاوز مرحلة المكاسب والنضالات الهوياتية، ودخل مرحلة جديدة تتصل بالتغيير السياسي الشامل، خاصة أن الانطباع العام يشير إلى انخراط مختلف ربوع البلاد ومكونات المجتمع الجزائري في المسعى المذكور.
وينفي الكاتب خلاص قدرة ما يعرف بـ”قبائل المصالح” على تدجين أو إجهاض التحول المتصاعد، وبرر ذلك بكون النواة الصلبة المكونة من نخب مالية وإعلامية وعسكرية وإدارية قبائلية، والتي يستعين بها النظام لكسر حراك المنطقة لا يمكن أن تحقق ذلك، لأن “النظام آلة ثقيلة جدا تتشكل من العسكر ومن الإدارة والغطاء الأيديولوجي ومختلف الشرعيات والمرجعيات المشكلة له”.
صناعة حراك القبائل
ذكر خلاص “تواجد أفراد من منطقة القبائل داخل النظام لم يكن في صالح عموم أبناء المنطقة، لأن هؤلاء كانوا عوامل تثبيط وكبح للحركية المطلبية الخاصة بالهوية في المنطقة، ووجودهم في النظام سبب لهم رفضا أكثر من أبناء المناطق الأخرى”.
ولفت المتحدث إلى أن “حركية النضال حول الهوية الأمازيغية قد ساهمت بقوة في بلورة المسار نحو استعادة الإرادة الشعبية، واستفزاز الجزائريين للتفكير خلافا لتوجهات السلطة وتقديم الرأي المخالف في الأوساط الشعبية”.
ولأن المعارضة التاريخية للسلطة الجديدة بعد الاستقلال الوطني في يوليو 1962، كانت في الغالب من المنطقة المذكورة، فقد برر الباحث أحسن خلاص ذلك بـ”شعور النكسة لدى هؤلاء بعد الاستقلال، فرغم المكانة التاريخية في الحركة الوطنية وثورة التحرير، والإسهام الحيوي فيهما، أُجبروا على الانخراط في منظومة سياسية لم يشاركوا في بلورتها بل أقصت هويتهم ووجودهم الثقافي والسياسي”. وأضاف “كان إقرار الوجهة العربية الحصرية للجزائر منذ الاستقلال والتي انبثقت عن مخابر قومية وناصرية، كفيلا بإبراز مواقف رافضة تكرست وتطورت مع الأجيال وانفجرت في عدة محطات كالربيع الأمازيغي في 1980، والربيع الأسود في 2001، وإضراب المحافظ المدرسية في 1995”.
لم يعد الشارع القبائلي يتفاعل بحماس مع تلك المكتسبات، لأن الاعتقاد توجه إلى أن قيم الحرية والدولة المدنية وسلطة الشعب، هي التي تضمن وتكفل الخصوصيات الحضارية والثقافية للمكونات الاجتماعية، الأمر الذي يوحي إلى تحول عميق من مجرد مسيرات شعبية ومظاهرات سياسية، إلى أفكار تجري صياغتها في المخيال الشعبي الجزائري.
وتجسد ذلك في تمسك الحراك الشعبي بمطالبه الأساسية وبطابعه السلمي، رغم القبضة الأمنية التي فرضتها المؤسسات الانتقالية بقيادة المؤسسة العسكرية، وبعدها السلطة التي انبثقت عن الانتخابات الرئاسية المنتظمة في الثاني عشر ديسمبر الماضي، حيث تحول رفع راية الهوية المحلية أو صياغة منشور في شبكات التواصل الاجتماعي، كفيلا بإلحاق تهم تهديد الوحدة الوطنية والتحريض على التجمهر بصاحبها.
وإذ تسارع السلطة برأي مراقبين، إلى اجتثاث فورة الشارع وإنهاء حالة الحراك الشعبي، فإن الوضع بات شبيها بما قبل بداية الحراك الشعبي لما كانت السلطة تهدد وتتوعد كل من تسول له نفسه بالتغريد خارج السرب، وتعتقد خطأ أنها تتحكم في شارع فقد مقومات الثورة رغم استفزازات العهدة الخامسة للرئيس بوتفليقة التي فجرت الوضع.
لكن الفارق بين المرحلتين أن جدار الخوف الآن لم يعد يجدي السلطة نفعا، والمقاربة الأمنية المتصاعدة تدفع باتجاه نهاية مبكرة لصبر الشارع الذي بدأ بمسيرة رمزية في تيزي غنيف، وقد تنتقل عدواها إلى بلدات أخرى في منطقة القبائل، لتعيد تشكيل الحراك الشعبي من جديد. ويبدو أن ورقة التفكيك الهوياتي التي وظفتها دوائر السلطة مؤخرا، عندما تم تركيز حملة تشهيرية غير مسبوقة على منطقة القبائل، قد تبددت في مرحلة أولى على يد المسيرات الشعبية في شتى مدن ومحافظات البلاد التي رفعت شعار “القبايل برافو عليكم.. الجزائر تفتخر بكم”، وعلى يد السلطة الجديدة التي ما فتئت تطلق رسائل الغزل للمنطقة في خطابها الرسمي.