هل يقبر الوباء المد الثوري في الجزائر
يراقب الجزائريون كيفية تعاطي السلطة في بلادهم مع الحرب على وباء كوفيد – 19 بحذر كبير من أن تكون هذه الكارثة الصحية فرصة جديدة للعودة إلى الوراء لتكميم الأفواه عبر قمع المعارضين والصحافيين. ويستحضر الجزائريون الذين تمكنوا من الإطاحة بنظام عبدالعزيز بوتفليقة الكثير من التجارب السابقة التي ارتدّت فيها السلطة على مكاسب حققوها كانت تتوق للتعددية واستكمال المسار الديمقراطي.
تتراكم العديد من المؤيدات في الجزائر التي تشي بتوجّه السلطة الحاكمة إلى إفشال المسار الثوري المطالب بالقطع نهائيا مع كل الممارسات القمعية التي فرضها على مدى أكثر من عقدين، نظام الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة.
وتحاول السلطة بحسب الكثير من المراقبين توظيف أزمة كورونا لقبر الحراك وإخماد صوت المحتجين خاصة مع ظهور بوادر كثيرة تشير إلى ذلك ومنها القمع والاعتقالات المتواصلة والملاحقات التي طالت قادة الرأي من صحافيين ومدونين وناشطين سياسيين.
لكن الكثير من الناشطين السياسيين والمحللين يعتقدون أن السلطة ترمي بنفسها في المحرقة بتأكيدهم أن الشارع المحتج لن يتراجع إلى الوراء بعدما حقّق قفزة هامة كسرت عقدة تجارب سابقة تاق فيها المواطنون للحرية والديمقراطية.
ولئن تختلف التقييمات حول الأولويات المطروحة على جدول أعمال السلطة الحالية وفي مقدّمتها الرئيس عبدالمجيد تبون، فإن الانطباع السائد الآن في الجزائر يفضي إلى وجود قلق متزايد من أن يكون توظيف أزمة كورونا أوكد المهمات التي تركز عليها السلطة لخفت صوت الشارع المحتج بدل التفكير في أزمات أخرى أشد تعقيدا ومنها انخفاض أسعار النفط الذي يعد الممول الرئيس لخزائن الدولة. ويرى محلّلون أن السلطة في الجزائر تستغل وباء كوفيد – 19 لدفن الحراك مرة واحدة وإلى الأبد، بعدما استمرّ لأكثر من عام، ومنع أي حراك ثان، بعد توقف الأول بسبب الوباء.
ومنذ بداية الأزمة الصحية ونهاية المظاهرات الأسبوعية، يتواصل القمع بحقّ معارضين وصحافيين ووسائل إعلام مستقلة ومدونين شباب.
تجربة انتفاضة أكتوبر
تدعّمت كل مؤشرات العودة إلى الوراء بعدما أثارت المصادقة المتسرعة على قانون يجرّم نشر الأخبار الكاذبة وقانون مكافحة خطاب الكراهية على الإنترنت مخاوف من محاولة تكميم حرية التعبير. وانتقد الصحافي أكرم بلقايد في عموده بصحيفة “لوكوتيديان دورون” العودة إلى “نظام الحكم بقبضة حديدية، وهو نفس ما جرى خلال سنوات 1970 عندما فُرض على كل الجزائريين أن يصمتوا وأن يسيروا في الطريق المستقيم”.
وأضاف “فاز الحراك في مباراة الذهاب والسلطة بصدد الفوز في مباراة الإياب وهدفها الحقيقي هو منع مباراة الفصل، وبعبارة أخرى عودة المظاهرات عندما ستتم السيطرة على الوباء”.
وتعيد الممارسات التي تفرضها السلطة الجزائرية في زمن الوباء، الكثير من التجارب السابقة التي أدّت إلى إفشال ما يصبو إليه الشعب من تكريس لنظام تعددي وديمقراطي يحترم إرادة المواطنين وتوجهاتهم السياسية.
ورغم مرور ثلاثة عقود على أحداث الخامس من أكتوبر 1988، يتذكر الجزائريون ويتوقفون بتأمل اليوم عند هذه التجربة السياسية للاستفادة منها تجنبّا لسقوط السلطة الحاكمة في نفس المنزلقات.
ولا يستبعد الكثير من المراقبين أن تنتهج السلطة في عام 2020 نفس السياسة والآليات التي فتحت عام 1988 بابا صغيرا ومتنفسا للمعارضة وللصحافة والإعلام لكن سرعان ما أغلقت الباب لتنقلب على كل هذه المكتسبات التي وُئدت في وقت وجيز.
وبات الجزائريون يتساءلون رغم إدراكهم لخطورة الوضع الصحي مع تواصل تفشي وباء كورونا عما تحقق من مطالبهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي ثاروا من أجلها بعد إسقاط نظام بوتفليقة.
ولئن تعد انتفاضة أكتوبر عام 1988 سببا رئيسيا في دخول الجزائر عهد التعددية والانفتاح السياسي، حيث تظاهر آنذاك الآلاف من الجزائريين احتجاجا على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردية، بسبب أزمة أسعار النفط التي شهدها العالم عام 1986، فإنها أصبحت مقياسا حقيقيا يمكن عبره تقديم تقديرات لحقيقة التوجهات السياسية للسلطة الحاكمة في المستقبل.
وفي مقارنة مع ما يحدث اليوم يتذكر الجزائريون كيف أجبرت أحداث عام 1988 الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد آنذاك على التعهد بتنفيذ إصلاحات سياسية، توجت بدستور 23 فبراير 1989، مما سمح بإنشاء أكثر من ستين حزبا سياسيا، وإنهاء حكم الحزب الواحد.
لكن بعد ذلك ورغم أن هذه الأحداث توجت بإصلاحات غير مسبوقة، تم الالتفاف على الإصلاحات من طرف السلطة تدريجيا، ولم تستطع المعارضة تغيير طبيعة ومكونات النظام الحاكم، حيث بقيت رموز الحزب الواحد ضمن أهم مكوناته.
وذهبت كريمة ديريش، المؤرخة المختصة في المنطقة المغاربية، في نفس الاتجاه الداعم لما يفكر به الحراك بالقول إن “هذا الوباء مبارك للنظام الحاكم الذي يستفيد من فرصة وقحة. كما أن فترة الحجر الصحي تفسح المجال لمضايقات الشرطة والقضاء”.
ولاحظت أن “هذا يفسر عشرات الاعتقالات لأشخاص معروفين وغير معروفين في جميع المدن الجزائرية”، مضيفة ”الاعتقالات والأحكام تثبت مرة أخرى أن القضاء يخضع كليا للسلطة التنفيذية”.
وخلال 56 أسبوعا، هتف الحراك ضد الفساد والمحسوبية و”الدولة العسكرية”، وطالب بتغيير النظام الحاكم منذ الاستقلال عام 1962، لكن دون نتيجة، رغم تمكنه في البداية من إسقاط الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة بعد 20 سنة من الحكم. أما الشعار الأكثر انتشارا للحراك السلمي التعدّدي والذي لا يملك قيادة فكان “ارحلوا جميعاً!”.
لكن بالنسبة للرئيس الجزائري الجديد عبدالمجيد تبون “لا يمكن بناء الديمقراطية الحقيقية إلا في إطار دولة قوية بقضائها وتناسقها الوطني”. وبرّر تبون إجراءات الرقابة على المواقع الإلكترونية المتهمة بخدمة “منظمات أجنبية” بالدفاع عن “السيادة الوطنية”.
وفي مواجهة الرئيس والجيش “الذي لا يزال حاضراً أكثر من أي وقت مضى”، بحسب ديريش، فإن المعارضة السياسية ضعيفة ومنقسمة.
وكتب مؤخرا الكاتب الجزائري كمال داود في صحيفة “لو تون” السويسرية “نجد أنفسنا في وضع يكتسب فيه النظام زخماً، مدعوما بتوقف التظاهرات بسبب الجائحة، في غياب رؤية بديلة مطمئنة وواضحة”.
وأشار إلى أنه “لا يوجد نظام واحد ولكن هناك العديد من الأنظمة، من الواضح أنها في منافسة داخلية، البعض يريد إصلاحات حقيقية، والبعض الآخر يريد صرامة أكثر في الرقابة”.
أزمة متعددة الأبعاد
بعيدا عن الحراك، يؤكد الكثير من الخبراء أن الوضع الاقتصادي الخانق بات يستأثر بدرجة أولى بكل وقت السلطة التي باتت محاصرة بسبب انخفاض أسعار المحروقات التي تعد مصدرا رئيسيا لثروات الجزائر.
ويشدد هؤلاء على أن السلطة في الجزائر أُضعفت ليس فقط بسبب الحراك والأزمة الصحية ولكن أيضًا بسبب انخفاض أسعار المحروقات، الذي يهدد بأزمة اقتصادية خطيرة في الجزائر، تعتمد بشكل كبير على ريع النفط.
وقال منصور قديدر، الباحث في مركز البحوث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية في وهران، إن “الحكومة منشغلة بإعادة النشاط الاقتصادي والاجتماعي وعودة المدارس أكثر، من انشغالها باستئناف الحراك”.
وأضاف “يعتزم الرئيس الجديد تنفيذ الإصلاحات الموعودة، من دستور جديد إلى فتح ورشات من أجل مؤسسات جديدة. وهو يطمح لبث روح جديدة في الاقتصاد وتثبيت مكانته في المجتمع. وهذه مهمة صعبة”.
وفي نظر مراقبين، رغبة الرئيس تبون، الذي تم انتخابه في ديسمبر بنسبة امتناع عن التصويت بلغت 60 في المئة، في ترسيخ الحراك في ديباجة الدستور، تعني أنه على وشك توقيع شهادة وفاته.
وبالنسبة لأسماء مشاكرة الباحثة في مجال الطب فإن السلطة “تستفيد من الطارئ الصحي والحجر، وهناك بالفعل رغبة في تفتيت الحراك. لكن النظام لا يفهم أن الحراك هو أولا وفوق كل شيء أفكار والأفكار لا تموت”.
وتنّبأت هذه المناضلة من أجل الإفراج عن كريم طابو، أحد رموز الحراك “ربما لن يرى جيلي التغيير لكننا سنترك الأرض خصبة لازدهار جزائر جديدة”.