سياسة شراء السلم الاجتماعي تعمق متاعب اقتصاد الجزائر
دخلت الجزائر في مغامرة جديدة غير محسوبة العواقب بإقرار زيادة معاشات المتقاعدين لتزيد الضغوط على المالية العامة للدولة النفطية، وهو ما اعتبره اقتصاديون محاولة يائسة من قبل المسؤولين لامتصاص غضب المواطنين الذين ملّوا من تحايل الحكومات المتعاقبة طيلة العقدين الماضيين تحت يافطة السلم الاجتماعي.
يحاول صناع السياسات الاقتصادية في الجزائر عبر حزمة من القرارات طالت معاشات المتقاعدين ورواتب الموظفين، امتصاص غضب الأوساط الشعبية، التي لا تزال تطالب بإحداث اختراق في جدار الأزمات المزمنة.
وفي خطوة مفاجئة، اعتبرها خبراء اقتصاد محاولة لشراء السلم الاجتماعي، قررت الحكومة اتخاذ الخطوة رغم المشكلات المالية التي تواجه البلد المنتج للنفط.
وللمرة الأولى يُرفع فيها الحد الأدنى للأجور منذ ثماني سنوات ودون أي مقدمات تفاوضية مع الشركاء الاجتماعيين، كما دأبت عليه تقاليد الجبهة الاجتماعية في إطار ما يعرف بـ”الثلاثية”، والتي تضم الحكومة وأرباب العمل والنقابات.
وفجر هذا التحرك انتقادات القوى العاملة والشركاء الاجتماعيين حول جدواها في الحد من تآكل القدرة الشرائية للمواطنين، خاصة في ظل التداعيات التي يفرزها تدريجيا الوباء العالمي، وتدهور مداخيل البلاد نتيجة تهاوي أسعار النفط.
وتواجه الحكومة حالة غليان شعبي في ظل غياب خطط واضحة قادرة على استيعاب متطلبات المواطنين، وخاصة الفقراء، الذين يرزحون تحت أعباء التهميش وارتفاع الأسعار وتراجع قدراتهم المعيشية.
وتم الإعلان عن التدابير بعد اجتماع مجلس الوزراء، الذي أعلن عن حزمة من التدابير التقشفية لمواجهة التداعيات، التي يفرزها تهاوي أسعار النفط في الأسواق الدولية، باعتباره المصدر الأساسي لموارد البلاد.
وطرح قرار الحكومة تساؤلات حول مصدر تمويل الزيادات، في ظل توقعات بتراجع العائدات بنحو 20 مليار دولار، وتنامي عجز الموازنة بسبب تقلّص حصيلة الضرائب من نشاط قطاع الطاقة، فضلا عن زيادة الإعفاءات الضريبية عن المؤسسات الأخرى إلى 50 في المئة بغية مساعدتها على تجاوز مرحلة الوباء.
وبموجب تلك المراجعة التي رفعت الأجر القاعدي إلى نحو 150 يورو، وإعفاء الفئة التي تتقاضى أقل من 250 يورو من الضريبة على الدخل، فضلا عن تخصيص نحو أكثر من 3 ملايين متقاعد زيادة تترواح بين 2 و7 في المئة، تكون الحكومة قد كرست سياسة شراء السلم الاجتماعي، بسبب غياب المبررات الاقتصادية للإجراءات
المذكورة.
وقوبل الإجراء الحكومي باستغرب الأوساط الاقتصادية، قياسا بما يعتبرونه خطوة “رمزية” لا تقدم شيئا للقدرة الشرائية المتآكلة، لاسيما وأن اختلالات كبيرة تعرفها الجبهة الاجتماعية خاصة في الأسابيع الأخيرة.
ولا زالت الحكومة تتغافل عن الخسائر التي تكبدها العاملون في القطاع الخاص وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة نتيجة إجراءات الحجر الصحي المطبقة في البلاد منذ أكثر من شهرين.
ولم تسلم حتى المؤسسات المتوسطة المكونة للنسيج الاقتصادي في البلاد من تداعيات الجائحة الصحية، مما دعا أصحابها إلى رفع مطالب للحكومة من أجل إطلاق تدابير إنقاذية للإنتاج ولليد العاملة، كتسهيل وتيرة قروض بنكية بدون فائدة.
وكان رئيس منتدى رؤساء المؤسسات، أكبر تنظيم مهني لرجال المال والأعمال في الجزائر محمد سامي عقلي، قد أقر بوجود نحو 80 في المئة من المؤسسات المملوكة للقطاع الخاص على وشك الإفلاس، ودعا الحكومة إلى اتخاذ تدابير عاجلة للمحافظة على النسيج الاقتصادي في البلاد والحفاظ على مناصب الشغل.
ويرى الخبير حميد علوان بأن هذا الإجراء ينم عن غياب استراتيجية واضحة للحكومة لمواجهة الأوضاع الاقتصادية والمخاطر الحقيقية المحدقة بالبلاد.
وأوضح أستاذ الاقتصاد بجامعة الجزائر 3 أن خيار الاعتماد على الريع لا يزال الملاذ الوحيد للسلطة، فبعد تهاوي أسعار النفط يجري الاهتمام بالثروات الباطنية الأخرى التي تعتبر حق الأجيال القادمة.
ولم ترق الإجراءات المتخذة لصالح الطبقة الشغيلة وفئة المتقاعدين، للعديد من النقابات التي شددت على أن الزيادات المعلن عنها لا تقدم شيئا للقدرة الشرائية للأشخاص.
واعتمدت النقابات في تبريراتها على دراسة اجتماعية خلصت إلى أجر قاعدي لا يقل عن 400 دولار، كمقياس لأي حلول جدية للحكومة من أجل التكفل بالقدرة الشرائية للطبقة الشغيلة والمتقاعدين.
غياب خطط واضحة قادرة على استيعاب متطلبات المواطنين، وخاصة الفقراء، الذين يرزحون تحت أعباء التهميش وارتفاع الأسعار وتراجع قدراتهم المعيشية
ويرى مهتمون بالشأن الاجتماعي في الجزائر، بأن الزيادات المعلن عنها سواء برفع الحد الأدنى للأجور أو إلغاء ضريبة الدخل على فئة معينة، لا تمس إلا طبقة قليلة من العمال.
وقالوا إنه إذا كانت الخطوة تستهدف تحسين وضع الفئة المذكورة، فإن تدهور القدرة الشرائية طالت جميع القوى العاملة، كما أن سلم الرواتب يتجاوز في العادة سلم الأجر القاعدي المذكور، بما في ذلك العمال المنتسبين للقطاع الخاص.
وتبقى الخيارات الاقتصادية للسلطة الجديدة في البلاد مبهمة، في ظل تمسك الرجل الأول في الدولة عبدالمجيد تبون بعدم اعتماد الحكومة على خياري التمويل غير التقليدي المنتهج من قبل الحكومة السابقة بقيادة أحمد أويحيى، أو الذهاب إلى الاستدانة الجارية، حفاظا على ما وصفه بـ”القرار السيادي للبلاد”.
وانتقد اقتصاديون تلميح الحكومة إلى الرهان على استقطاب الكتلة المالية الناشطة في السوق الموازية، عبر تدابير جديدة كفتح المجال أمام الصيرفة الإسلامية، أو اللجوء إلى الاستدانة الداخلية.
ويرى مختصون في هذا الشأن، بأن الرهان على الصيرفة الإسلامية قرار غير مضمون النتائج، لأن الجزائر تمتلك منذ سنوات بنوكا إسلامية، لكنها لم تستقطب السيولة الموازية.
كما أن الاستدانة الداخلية قد تتحول إلى معضلة حقيقية لأن هناك استدانة من البنك المركزي لفائدة الخزينة العمومية بآلية التمويل غير التقليدي خلال السنوات الماضية، ولا أحد يدري كيفية معالجة الحكومة لدين يعادل أكثر من 60 مليار