ماذا يقرأ المغاربة في الحجر الصحي؟

ماذا يقرأ المغاربة في الحجر الصحي؟ سؤال طرحناه على مئة مثقف في البلاد التي فرض عليها الحجر من 20 مارس إلى 20 أبريل الجاري، ارتباطا بانتشار فايروس كورونا في البلاد. وباء لعين فرض على الناس البقاء في بيوتهم، في ما يشبه إقامة إجبارية، فكانت القراءة فسحة أمل يستجير بها المغاربة من هول الجائحة. كتّاب وباحثون ونقاد وروائيون وشعراء وسينمائيون وتشكيليون ومطربون ومسرحيون يطالعون كتبا جديدة، وآخرون وجدوها فرصة لإعادة قراءة روائع الأدب العالمي والفكر الإنساني، وكلهم يقرأون في النهاية من أجل هدف أسمى هو القراءة نفسها.

في الحجر الصحي تصبح الكتب هي الأجنحة القادرة على التحليق بنا بعيدا عن بيوتنا، وقد استحالت إلى زنزانة أليفة. ارتباطا بهذا التوصيف، أمكن أن نستحضر مفارقة ما قرأه المعتقلون السياسيون من خزائن الكتب في السجون، مقابل قراءة كتب معدودات هي التي قادتهم إلى الاعتقال. فعبر القراءة يمكن لحبيس الجدران أن يخترقها بخياله وهو يتابع الأفكار والشخصيات والصور التي يصادفها بين ثنايا الأسطر والصفحات.

أما الكاتب الأرجنتيني ألبرتو مانغويل، تلميذ بورخيس، والذي اختار حياة العزلة الطوعية، فيقول لنا “لقد أعطتني القراءة عذرا مقبولا لعزلتي، بل ربما أعطت مغزى لتلك العزلة المفروضة علي”.

ولا يبتعد صديق بورخيس الأثير إرنيستو ساباطو عن هذه القناعة “دفعتني تلك العزلة، إلى جانب خجلي، إلى الانغماس في القراءة. كنت ألتهم كل الكتب، ولم يكن هناك أي أحد من شأنه أن يوجهني إلى ما ينبغي أن أقرأه”. ذلك أن العزلة هي قرينة الحرية، والحرية هي “امتلاك العزلة” حسب فرناندو بيسوا. كذلك حال القارئ، وهو يقرأ فهو إنما ينشد الحرية، ويحاول أن يغادر حجره الصحي مغادرة مجازية، مثل مسافر رمزي زاده الخيال. وقبل أيام، كتب عالم المستقبليات الألماني ماتياس هورس مقالا في موقع “دوتشلاند” الشهير، تحدث فيه عن كيف غير فايروس كوفيد – 19 عاداتنا، حيث شعر الناس بالحاجة إلى الكتاب من جديد، فتخففوا من هواتفهم النقالة، وتوجهوا نحو قراءة الكتب.

قراءات المغاربة

ونيس العزلة الصحية

حسب النتائج التي يقدمها لنا هذا الاستبيان، فقد قرأ مئة مغربي 325 كتابا، بمعدل ثلاثة كتب وربع لكل قارئ. كما يكشف لنا هذا الاستبيان أن المغاربة فضلوا قراءة

الروايات بحوالي ثلث المتون المقروءة، أو ما نسبته 29.53 في المئة. وجاءت الكتب النقدية في المرتبة الثانية، بمجموع 54 كتابا، أي ما نسبته 16.61 في المئة. لكن أغلب هذه الكتب تهم نقد الشعر، بنسبة 33.33 في المئة، أي ثلث الكتب النقدية، مقابل أربعة كتب في النقد المسرحي و3 كتب في النقد السينمائي وكتابين في نقد الفن، وكتابين في نقد الرواية. وهكذا، يفضل المغاربة قراءة الرواية على الشعر، لكنهم يفضلون قراءة نقد الشعر على نقد الرواية. بعد النقد، حل الشعر في المرتبة الثالثة في مقروءات المغاربة، بمجموع 45 كتابا، ما بين الدواوين والمختارات الشعرية والأنطولوجيات والأعمال الكاملة، بنسبة 13.84 في المئة، ثم الدراسات الفكرية في المرتبة الرابعة، بمجموع 38 كتابا، وبنسبة 11.69 في المئة، مع كتابين فقط في الفكر الإسلامي، ومثلهما في الفكر السياسي. ثم يأتي التاريخ بنسبة 8.61،  ثم أدب الرحلة، ثم الرسائل بخمسة كتب لكل منهما، وبنسبة 1.53 في المئة. وتنتمي تسعة كتب إلى الثقافة العامة، بمعدل 2.76 في المئة. بينما تجمع الفنانة المغربية فاطمة الزهراء القرطبي ما بين كتب الثقافة العامة والروايات، مثلما تقرأ بالعربية والفرنسية. وكذلك الحال مع الفنان حميد الحضري، والذي اختار قراءة رواية بالعربية وأخرى بالفرنسية. بينما توزع الإعلامية المغربية أسمهان عمور قراءاتها ما بين الكتب الفكرية والأعمال الروائية. في حين يجمع المخرج السينمائي المغربي عبداللطيف الجوهري بين قراءة الرواية والنقد، بينما اختار الناقد السينمائي جمال السويسي قراءة النصوص السردية من روايات وقصص قصيرة.

المفارقة التي انتهت إليها نتائج هذا الاستبيان هي أن الشعراء يقدمون على قراءة الرواية أكثر من الشعر، لكن الروائيين لا يقرأون الشعر في المقابل. مع أن هنالك من الشعراء من لا يقرأ إلا الشعر، بينما تقرأ الشاعرة ثريا ماجدولين الرواية والفكر، وتقرأ الشاعرة أمل الأخضر الرواية فقط، والأمر نفسه بالنسبة إلى الشاعر محمد النعمة بيروك، وهو يكتب الشعر باللهجة الحسانية، وكذا الشاعر نوفل السعيدي، إلى جانب الشاعرات البتول محجوبي وفريدة العاطفي وابتسام الحمري، فكلهم اختاروا قراءة الروايات فقط، رغم كونهم شعراء. بينما يقرأ الشاعر أحمد زنيبر الرواية والنقد. ويفضل بعض القراء السفر ما بين الأجناس الأدبية والتخصصات المعرفية، كما يفعل الشاعر والناقد المهدي لعرج، وهو يتنقل ما بين الرواية والتاريخ والرحلة والنقد، بالعربية والفرنسية، وكذا الشاعر جواد الخنيفي وهو يتردد بين الشعر والنقد والتاريخ والرواية.

لسان القراءة

يقرأ جل المغاربة باللغة العربية، بنسبة 91.09 في المئة، بينما يقرأ 6.15 بالفرنسية، كما هو شأن الباحثتين فوزية لبيض وفاطمة الزهراء الصغير، وكلاهما تقرآن كتبا في النقد المسرحي. ويقرأ 2.15 من المغاربة بالإسبانية، كما هو شأن الباحث في الآداب الإسبانية مصطفى اعديلة، الذي يقرأ 4 كتب بالعربية ومثلها بالإسبانية، ومعه الشاعر محمد العربي الهروشي، وأخيرا الإنجليزية بنسبة 0.61، مع الشاعر الزجال عادل لطفي. لكن المغاربة يقبلون على قراءة الترجمات، بنسبة 29.53 في المئة، أي أن كل مغربي يقرأ كتابا مترجما من أصل ثلاثة كتب يقرأها في أسبوعين، وفق نتائج هذا الاستبيان. وهي القراءة التي أصبحت بمثابة اللقاح المتاح إلى حد الآن من فايروس كورونا، كما يرى الناقد والشاعر عبداللطيف الوراري، حيث تحولت القراءة عنده في أيام الحجر الصحي إلى “ضرب من الحالة الخاصة جدا، بحيث تحولت المكتبة في عيني إلى صيدلية، والكتب إلى أدوية وعقارات طبيعية تغذي وازع الفضول المعرفي الآني وتشبع حاجات نفسية وليدة الساعة، إلى حد أن يصبح فعل القراءة فعل استجمام ونزهة”.

عادة القراءة

من الكتب المفصلة للمغاربة

قراءات المغاربة متنوعة، وليس هنالك إقبال على كتاب بعينه، في ما يشبه “الموضة” المقترنة بقراءة رواية تجارية مثلا. ومع ذلك، يكشف لنا هذا الاستبيان أن ثمة كتابا

مفضلين وأثيرين لدى المغاربة، فمنهم من قرأ لهم المغاربة ثلاثة مصنفات على الأقل، وهم هوميروس والجاحظ وغابرييل غارسيا ماركيز وميلان كونديرا وكارلوس زافون وإليف شافاك وغسان كنفاني ومحمود درويش وخوان غويتصولو ومحمد برادة وعبدالسلام بنعبد العالي، وكتاب الرواية التجارية، إن صح التعبير، مع خولة حمدي في رواية “في قلبي أنثى عبرية” وحسن أوريد في “رواء مكة”. أما الكتب الأكثر قراءة في هذا الاستبيان، والتي قرأها أكثر من شخص، فهي “الإلياذة” لهوميروس و”مئة عام من العزلة” لماركيز و”التحول” لكافكا، و”متاهة الأرواح” لزافون، و”قواعد العشق الأربعون” لشافاك، و”موت مختلف” لمحمد برادة والمجموعة القصصية الأخيرة للكاتب المغربي أحمد بوزفور “إني رأيتكما معا”.

ومع عادة القراءة عند المغاربة، دائما، فإنهم يفضلون قراءة الأعمال التي صدرت حديثا، بمجموع 27 كتابا صدر سنة 2020، أو في بداية هذه السنة، على الأصح، و49 كتابا صدر سنة 2019 و31 كتابا صدر سنة 2018 و15 كتابا في 2017 و17 كتابا في 2016 و16 كتابا في 2015. وهو ما يؤكد أن نصف مقروءات المغاربة تقريبا إنما صدرت في الخمس سنوات الأخيرة، بنسبة 47.69 في المئة. كما أن 258 كتابا من الكتب المقروءة صدرت في الألفية الحالية، بنسبة 79.38، مقابل 21 كتابا صدر في فترة التسعينات، و7 كتب صدرت في الثمانينات، و4 كتب صدرت في السبعينات، و3 في الستينات، ومثلها في الخمسينات من القرن الماضي. على أن أقدم كتاب من الكتب الحديثة، من حيث الصدور، هو كتاب “النقد الذاتي” للزعيم السياسي المغربي علال الفاسي، وصدر سنة 1952، ومعه رواية “رجال في الشمس”، الصادرة سنة 1953. أما الكتب التراثية فعددها 14 كتابا، بنسبة 4.30 فقط.

الحجر فرصة للاطلاع على الأدب الغربي الكلاسيكي 

في أيام العزلة هاته، اختار بعض القراء المغاربة إعادة قراءة بعض الكتب التي طالعوها من قبل. ويتعلق الأمر بـ14 كتابا، بنسبة 4.30 في المئة. وأغلب هذا الصنف من القراء من الجامعيين والكتاب، حيث نجد الباحث المغربي نزار التجديتي أعاد قراءة أربعة كتب، والأمر نفسه بالنسبة إلى الباحث محمد آيت لعميم، وكذا الباحث عمر البقالي، وناقد الشعر عبداللطيف الوراري، والشاعرة خلود بناصر، التي أعادت قراءة ديوانين لمحمود درويش. ضمن هذا الاختيار، يرى الباحث والمترجم آيت لعميم أن كل قراءة في حاجة إلى إعادة، لتبقى القراءة الأولى أولية، وبمثابة تصفح للكتاب. ويستشهد الكاتب ههنا بما أورده إيطالو كالفينو في مقدمة كتابه “لماذا نقرأ الأدب الكلاسيكي”، حين يؤكد “لا نقول إننا بصدد قراءة كتاب، وإنما نقول إننا بصدد إعادة قراءته”.

وأظهر الاستبيان أن الذين يعيدون قراءة الكتب هم قراء “متخصصون”، أو باحثون أكاديميون، يعودون إلى الكتب فيعيدون قراءتها من أجل الكتابة عنها، أو من أجل توظيفها في دراساتهم وأبحاثهم. علاقة بهذا التوجه البحثي للقراءة، كشف الاستبيان عن فئة من القراء ينكبون على ما يمكن أن نسميها “القراءة المتخصصة”، حيث لا يقرأ الباحث في التاريخ عبدالسلام الجعماطي سوى الكتب المتعلقة بمجال التاريخ، في فترات غير متباعدة. والحال نفسه مع الباحث مصطفى المرون، في مجال التاريخ دائما، ومعهما محمد رضا بودشار. ما يؤكد أن المتخصصين في التاريخ غالبا ما ينصرفون إلى مجالاتهم، سعيا وراء المادة التاريخية. وفي مجال الدراسات الأدبية، نجد بعض القراء المتخصصين أيضا، حيث تكاد تقتصر قراءات الباحث محمد سعيد البقالي على مجال تخصصه في أدب الرسائل، والأمر نفسه بالنسبة إلى الشاعر والباحث في بلاغة السخرية صالح البريني. هذا بخلاف قراء آخرين تركوا مجال تخصصهم، وانصرفوا إلى قراءات أخرى، كما هو الحال مع نادية الناير وجواد الديوري، واللذين اختارا قراءة الشعر، وهما قادمان من تخصصات علمية.

مسند القراءة

وفاء للكتاب الورقي

لا يزال القراء المغاربة أوفياء للكتاب الورقي، بنسبة 91.62 في المئة، بينما لا يتعدى الكتاب الرقمي 27 كتابا، بنسبة 8.30 في المئة، منها كتب على اليوتوب، عبر تقنية القراءة السريعة، كما هو الحال مع الشاعر أحمد الحريشي والقاص والفنان التشكيلي سعيد الشقيري.

واختار الفنان التشكيلي المغربي أحمد جاريد قراءة كل تراث السهروردي على الإنترنت، في صيغة (بي.دي.إف) كما اختار الباحث المغربي عادل العناز قراءة روايات بهذه الصيغة، واختارت الطالبة الباحثة رانية حلوان قراءة كتاب “في العنف” لحنا أرندت بالصيغة نفسها، والأمر نفسه بالنسبة إلى الكثير من الطلبة الذين يلجأون إلى القراءة الرقمية بسبب تكلفة الكتاب، أو بسبب ندرة بعض المراجع التي تتوقف عليها أبحاثهم الجامعية.
غير أن أغلب الذين شاركوا في هذا الاستبيان، من الذين يعتمدون على الكتاب الرقمي، يؤكدون وجود صعوبة في التركيز، مقارنة بالكتاب الورقي.

وهو ما يجعلهم يفضلون قراءة الروايات الكلاسيكية والشعر غير الممتنع وكتب الثقافة العامة، بدل الكتب الفكرية والتجارب الإبداعية التي تستدعي تأملا أكبر وتعمقا في القراءة. وهكذا، كانت الكتب الرقمية المشمولة بالاستبيان هي أعمال ماركيز وتشيخوف وإدغار آلا بو وفرانز كافكا وألبير كامو وميلان كونديرا وأشعار المتنبي وجلال الدين الرومي ودرويش.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: