بلقاسم زغماتي: منفّذ جيّدٌ للأوامر أم رجل المرحلة في الجزائر؟

يبدو أن وزير العدل الجزائري بلقاسم زغماتي ذاهب إلى أبعد الحدود كما أوصاه سنده القوي الجنرال الراحل أحمد قايد صالح، حيث يتجه الرجل إلى الأخذ بتوصيته، حين همس له في احتفالية رسمية خلال الأشهر الماضية بلغة فرنسية ”ينبغي أن تذهب إلى أبعد الحدود“، وقبل ذلك كان قد فاجأ الجميع بإصدار مذكرة توقيف دولية في حق مدلل من مدللي النظام السابق. فهل زغماتي، منفذ جيد للأوامر أم شخصية كاريزمية للمواعيد الكبرى؟

عندما احتاج مدير جهاز الاستخبارات السابق الجنرال توفيق، خلال العام 2010، إلى ذراع قضائية لمباشرة حربه على جناح الرئاسة، بدعوى لجم الفساد المستشري داخل قطاع النفط، أوعز آنذاك إلى النائب العام لمجلس قضاء العاصمة زغماتي، بفتح الملف وإصدار مذكرة توقيف دولية، في حق مدلل نظام عبدالعزيز بوتفليقة، وزير النفط ومدير شركة سوناطراك شكيب خليل.

ولأن القبضة الحديدية كانت متوازنة آنذاك بين الاستخبارات والرئاسة، فإن بوتفليقة استعاد المبادرة وأنقذ رفيق طفولته من حبل القضاء، وتمت تنحية زغماتي من منصبه ليدخل بذلك في لائحة المغضوب عليهم من طرف السلطة، إلى غاية العام الماضي، حيث تم استقدامه من طرف السلطة الانتقالية، في تعديل طفيف طرأ على حكومة نورالدين بدوي.

المنجل الحاصد

حوّل الخطاب الشعبوي وزير العدل زغماتي إلى بطل قومي ساهم بشكل كبير في الإطاحة بنظام ”العصابة“، وتصاعدت مؤشراته في بورصة الدوائر الموالية للسلطة إلى مستويات قياسية، حيث بات يوصف بـ”المنجل“، كناية عن وظيفة الحصد التي تمارسها هذه الآلة البدائية، ونسبت إليه قرارات إحالة رموز نظام بوتفليقة على السجون المدنية والعسكرية. ولأن الرجل يشار إليه بالبنان، في التجاذبات الأخيرة في هرم السلطة، رشح للرحيل في أول تعديل حكومي قادم، لكن عودته عبر قانوني تجريم الأخبار الكاذبة ومحاربة خطاب الكراهية، أعطت الانطباع بأنه ذاهب إلى أبعد الحدود، لاسيما وأن النصوص الجديدة تعتبر امتدادا للمسار الذي انتهجته السلطة بعد تنحي بوتفليقة، خاصة في ما يتعلق بلجم التغيير الشامل الذي يرفعه الحراك الشعبي.

لكن الالتباس يبقى قائما حول شخصية الرجل، بين المنفذ الجيد للأوامر كونه لم يبرز إلا واجهة لجهة قوية تقف خلفه، ويجهل المتابعون إن كان ينفذ قناعات شخصية حسب ما تروج له الخطابات المتداولة في الإعلام البديل من طرف جيوش إلكترونية افتراضية وحقيقية، حول رمزية الرجل في المرحلة الحالية من تاريخ الجزائر، أو أنه ينفذ قناعات جهات أخرى ظهر على واجهتها في المناسبتين.

وحتى المواجهة التي فتحها ضده قضاة الجمهورية من خلال إضرابهم عن العمل خلال الأشهر الماضية، احتجاجا على حركة تغييرات جريئة أجراها داخل الجهاز، خرج منها منتصرا على أكبر النقابات التي أذعنت في آخر المطاف لقرارات وزارة العدل، كما فشلت نقابة مستقلة، قيد التأسيس، في حشد القضاة لمناصرة الحراك الشعبي المعلق في البلاد بسبب تفشي وباء كورونا.

وبقيت بذلك القبضة الأمنية المدعومة بجهاز القضاء مسلطة على رؤوس الناشطين والمعارضين السياسيين، رغم الأصوات المرتفعة لدى الطبقة السياسية لحض السلطة على القيام بإجراءات تهدئة لاحتواء الأزمة وإعادة الاستقرار إلى الشارع، وتتجه في الآونة الأخيرة إلى المزيد من التضييق على هؤلاء، في ظل الترسانة القانونية التي يعكف الرجل على تمريرها للتحكم في الوضع.

من داخل الخندق

مواجهة قضاة الجمهورية ضد زغماتي وإضرابهم عن العمل خلال الأشهر الماضية، احتجاجا على حركة تغييرات جريئة أجراها داخل الجهاز، خرج منها منتصرا على أكبر النقابات التي أذعنت في آخر المطاف لقرارات وزارة العدل

ولوحت مداخلة وزير العدل في البرلمان، خلال عرض مشروع قانون محاربة خطاب الكراهية، بحزم غير مسبوق لدى السلطة وثقة في النفس عند الرجل، بشكل يدحض الإيحاءات التي تحدثت عن قرب رحيله، في إطار تغييرات يريد الرئيس عبدالمجيد تبون تنفيذها بغية خلق مناخ من التوافق والانسجام داخل الفريق العامل بالسلطة في مختلف مؤسسات الدولة.

وتبدو كلمة الرئيس تبون للوزير خلال اجتماع مجلس الوزراء الأخير “بلغ تحياتي إلى كل القضاة على الأحكام النزيهة التي يصدرونها”، رسالة مبطنة للمشككين في الانسجام داخل السلطة، وتنطوي على ثقة الرئيس في وزيره وفي مخطط العمل الذي ينتهجه، رغم أن نجله خالد كان ضحية لحكم قضائي زج به في السجن واتهمه بالضلوع في شبكة شحنة الكوكايين الشهيرة، ثم بُرّئ تماما خلال الأسابيع الأخيرة.

ومع ذلك يبقى الصداع الأكبر لزغماتي، داخل الجهاز نفسه، فهذا القاضي والنقابي سعدالدين مرزوق، يرى في قراءة لمشروع تعديل قانون العقوبات الجديد نشرها على حسابه الخاص في فيسبوك، العديد من المسائل السلبية رغم ما عدده من إيجابيات عليه.

ويضيف مرزوق “في محاولة منا للتجرد والموضوعية والإنصاف نقول إننا نتفق مع القائلين بسوء اختيار التوقيت لعرض مشروع القانون على البرلمان، في ظرف الجائحة الوبائية التي تمر بها البلاد وحالة الذعر التي يشعر بها المواطن المهدد في صحته سواء كان نخبويا أو عاديا“.


مصطلحات السلامة والوحدة والمصلحة والنظام العام، التي زجت بمئات المعارضين والناشطين في السجون على مدار الأشهر الماضية، هي مفاهيم مطاطة يريد زغماتي ومن خلفه الحكومة تكييفها تشريعيا للجم الأصوات التي تعارض السلطة

ويضيف ”كان الأجدر حسب رأينا انتظار العودة الطبيعية للحياة العامة، حتى يتسنى لجميع المختصين والمعنيين من قانونيين وخبراء علم الاجتماع، والأطباء النفسيين والَمثقفين عموما، إعطاء رأيهم في هدوء وخلق نقاش مجتمعي يساهم في إثراء الوعي الجمعي للمواطنين، والذين سيساهمون بطريقة مباشرة في التأثير على قناعة ممثليهم البرلمانيين واختياراتهم، والتي ستؤدي إلى قبول النصوص القانونية والقابلية لنجاعة تطبيقها“.

أعادت تلك القراءات التساؤل حول خلفيات ودلالات تسريع السلطة لوتيرة النصوص التشريعية الجديدة، رغم الظرف الاستثنائي الذي تمر به البلاد، وأن دعوة البرلمان إلى جلسة مناقشة المشروع وهو الذي كان معلقا لأشغاله بسبب تفشي وباء كورونا، يلمح إلى شكوك في نوايا السلطة لتمرير نصوص قضائية لضرب أركان الحراك الشعبي في أسرع وقت، تحسبا لأي عودة له برفع تدابير الوباء.

ولفت القائد النقابي المتعاطف مع الحراك الشعبي، والداعي إلى توظيف الهبّة الشعبية في تحرير واستقلالية القضاء من الضغط والتوجيه الفوقي، إلى أن “هذا النص قد يحمل مخاطر مهددة لحرية التعبير، فضلا عن سلبيات غرضها شعبوي أكثر منه تجريما فعليا“.

وذهب أبعد من ذلك في انتقاد النصوص التي يعكف وزير العدل على تمريرها في إطار أجندة سياسية مثيرة للجدل، بالقول “للأسف وفي سنة 2020  يعاد مرة أخرى إعداد  نصوص خالية من الجودة القانونية، وتحمل بذاتها بذور الاختلاف قبل بداية تطبيقها فكل قانوني أو حقوقي أو طالب في القانون، يعلم مدى الاختلاف في مفاهيم النظام العام وعناصر النظام العام ومدى تطبيقات النظام العام، وكذا الأمن العام في الحالات العادية، وامتداد أثره في الحالات الاستثنائية، فما بالك بمفاهيم أخرى كالمصلحة الوطنية وتعريفها، والمفهوم المضاد للمصلحة الوطنية، أو متبني خطاب الكراهية أو غيره“.

وباعتبار أن الابتعاد عن الصرامة والدقة في إعداد النصوص القانونية بلغة باذخة، أنيقة، مقتصدة وقوية ”لا يساهم في تشكيل دولة القانون التي نادى وينادي بها الجزائريون“، وهي مفردات جريئة، سيكون مفعولها قويا على الرجل الذي تراهن عليه السلطة ليكون يدها الحديدية ضد الحراك والمعارضة.

مصطلحات السلامة والوحدة والمصلحة والنظام العام، التي زجت بمئات المعارضين والناشطين في السجون على مدار الأشهر الماضية، هي مفاهيم مطاطة يريد زغماتي ومن خلفه الحكومة تكييفها تشريعيا للجم الأصوات التي تعارض السلطة.

الانقضاض على الآخر

الخطاب الشعبوي هو الذي يقف خلف تحويل زغماتي إلى بطل قومي ساهم في الإطاحة بنظام بوتفليقة، بعد أن تصاعدت مؤشراته في بورصة الدوائر الموالية للسلطة إلى مستويات قياسية

ويتساءل البعض بشأن تجريم أفعال الإهانة والتعدي على الإمام، الوارد في تعديل قانون العقوبات المصادق عليه من طرف البرلمان، عن الغرض من تخصيص الإمام بحماية ونص تجريمي خاص، مع أنه موظف ومحمي بالقواعد العامة المذكورة في قانون العقوبات ومثله مثل باقي الموظفين؟

وبهذه القراءة التي جاءت من صلب الجهاز القضائي، يكون زغماتي في حرج جديد، لأن المسألة لا تتعلق بخطاب سياسي أو أيديولوجي من جهة ما، يمكن تجاوزه بأي وسيلة، بل تتعلق بقراءة قانونية وتشريعية من رجل قانون فاعل، يمكن أن يميط اللثام عن خلفيات أخرى للرجل، تزيد من متاعبه ومتاعب السلطة أمام الرأي العام.

ولوقف أي تأويل آخر، يشدد مرزوق على أن قراءته لا تعني السماح بعودة الخطابات المتشددة أو التكفيرية أو المهددة لاستقرار البلاد، خاصة وأننا عانينا بما فيه الكفاية خلال عشرية كاملة من الدماء، وعرفنا معنى بعض الأفكار الدينية المتطرفة وخطرها، وأن غرضنا هو عدم تقييد حق الاختلاف مع الإمام واعتبار ذلك إهانة له. ومهما كان الغرض من وضع النص، كنا وما زلنا نرى أن الاكتفاء بالحماية العامة للموظف كاف في مجال التوظيف العمومي دون تمييز. وكان من الأجدر أن تتمّ إضافة نص يحمي العمال التابعين للمؤسسات العمومية الاقتصادية وذات الطابع الصناعي والتجاري لمجال الحماية مثل عمال شركات المياه والكهرباء والغاز بدل تفتيت المفتت وإضافة نصوص معطوبة حسا ومعنى.

ومع هذا التأويل أو ذاك، يبقى زغماتي القبضة الضاربة لصقور السلطة القائمة الرافضين لأي تغيير سياسي في البلاد، تلبية لمطالب الحراك الشعبي، المطالب برحيل السلطة وتنفيذ تغيير سياسي شامل في البلاد، حيث يشكل تحالف قطاع الأمن وجهاز الاستخبارات والقضاء أكبر خصوم الداعين إلى التغير منذ شهر فبراير عام 2019.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: