عمر بلافريج.. علماني مغربي مؤمن يثير جنون العدالة والتنمية

أصوله تمتد في الماضي إلى العائلات العربية التي نزحت من الأندلس واستوطنت المغرب بداية القرن السابع عشر، فرارا من محاكم التفتيش بإسبانيا بعد أفول الحكم العربي الإسلامي هناك. نشأ الصبي عمر بلافريج، بعد مئات من السنين في بيئة متحضرة متعلمة وبورجوازية. وكانت الدراسة والقراءة والجهاد هي الأدوات الفعالة التي استطاع بواسطتها أفراد عائلته الكبيرة الهروب من نيران الإبادة في أحداث حرّكتها توليفة معقدة وخطيرة من دوافع العقيدة ومكر السياسة وشهوتها، ليتحولوا إلى أعيان بلد النزوح في مجالات المال والسياسة.

ذاكرة عميقة أثرت بشكل ما في بلافريج وتشكيلة حظوظه بين عالمي الأعمال والسياسة، ليصبح يساري الهوى مندفع الطبع يحاول حرث أرض السياسة بمعول ومنجل معقوف، طبيعة عمله كبرلماني جعلته يطالب حكومة بلده بمنح الأسبقية للشعوب الأفريقية وخاصة الشعب الجزائري، من أجل أن يحقق اكتفاءه الذاتي من الكمامات والأدوية للتعامل مع وباء كورونا.

كسر القواعد

الخطوط الزرقاء في وسائل التواصل الاجتماعي لا تتحوّل عند بلافريج إلى حمراء داخل البرلمان، فكلا الساحتين عنده يجوز الإبحار فيهما، أما هو فكعادته يجلب الأنظار ويخلق حالة من التتبع الشعبوي

حيويته وتواصله مع الناس صفتان تجعلانه مقبولا عند ناخبيه بدائرة المحيط في العاصمة الرباط، منذ العام 2016، ليتخذ من البرلمان محرابه والحزب الاشتراكي الموحد عالمه الأثير.

كان طيلة الوقت مستفزا للحكومة، كثير الأسئلة والمشاحنات وغزيراً بالمقترحات، يعمل على أن تنطبق قناعاته السياسية مع واقعه العملي الذي ترجمه باستغنائه عن تقاعده البرلماني، ولم يتورع عن نبش الملفات العويصة كوضعية التعليم والصحة والتجارة والشغل والنقل وغيرها كثير. ومؤخراً خرج بلافريج، من فيدرالية اليسار الديمقراطي، عن إجماع ممثلي الكتل النيابية بخصوص قرار الاستدانة من الخارج لمواجهة جائحة كورونا، أثناء تصويت لجنة المالية على القانون، إذ صوّت بالرفض على مشروع القانون، معتبرا أنه سيرهن الأجيال القادمة للدين الخارجي. وتوجه إلى شعبه الفيسبوكي متأسفا على ما أسماه تكرار نفس المشهد الذي صرنا نألفه في كل القوانين المصيرية، كل الأحزاب في صف الحكومة ما عدا فيدرالية اليسار الديمقراطي. فهو يعتبر منظمته السياسية على صواب وكل الصفوف الأخرى خارجة عن الصراط المستقيم، لأنه يرى أن الحل في سنّ ضرائب استثنائية وتحويل النفقات.

رئيس لجنة المالية بمجلس النواب عن العدالة والتنمية لم يتأخر في الرد، عندما اعتبر تصويت البرلمانيين على قانون رفع سقف الاستدانة ضمن عدد من الإجراءات الاستثنائية لمواجهة تداعيات فايروس كورونا، سيمكن المغرب من اقتناء مستلزمات صحية والقمح والمحروقات وما قام به عمر بلافريج، مجرد مزايدات فارغة وبحث عن “البوز”.

ليست المرة الأولى التي يخرج فيها عن الإجماع، فهو لا يستسيغه ولا يتوافق مع شخصيته المعارضة، يعتقد أن التعبير عما يجول في خاطره سياسة، ورأيه يطلقه في الساحة الزرقاء الممتدة على عوالم من الافتراض والشخصنة والبوح تسمح له بالسباحة عكس التيار. إذ يبدو أن الخطوط الزرقاء في وسائل التواصل الاجتماعي لا تتحول عنده حمراء داخل البرلمان فكلا الساحتين عنده جائز الإبحار فيهما.

وكعادته في جلب الأنظار وخلق حالة من التتبع الشعبوي التي لا تخلو من الإعجاب عند البعض والاستهزاء عند آخرين، صوّت في العام 2018، ضد ميزانية القصور الملكية، عندما أجمع مجلس النواب آنذاك على زيادة هذه الميزانية أثناء مناقشتها، مبررا قراره بعدم تلقيه أي معطيات تتعلق بالأسباب التي فرضت الرفع من الميزانية المذكورة.

موقف سريالي قلّل من قيمته الكثيرون كونه لا يعدو مجرد رغبة في تحقيق نوع من الشهرة والتميز عن الباقي، وأيضا باعتباره موقفا خارج السياق السياسي الذي يعيشه المغرب حاليا، والدليل أنه لم يقم بذلك في العام الذي يليه، وها هو رفيقه اليساري في الاتحاد الاشتراكي، جواد بنعيسي، يقصفه متسائلا، ما قيمة أن يصوّت برلماني ضد الميزانية عندما يكون مدينا بكل مناصبه السابقة لريع المخزن وشبكة العائلة المتوغلة في الدولة؟ سؤال لم يجب عليه بلافريج إلى الآن.

من الأعمال إلى السياسة

دخول بلافريج معترك العمل السياسي بتشعباته يأتي بعد أن أدار مسرِّعة الأعمال “تكنوبارك” لسنوات طويلة، متكئا على ترسانة المفاهيم والنظريات في الهندسة والرياضيات التي اكتسبها في الرباط وباريس

قبل دخوله معترك العمل السياسي أدار بلافريج مسرِّعة الأعمال “تكنوبارك” لسنوات طويلة، متكئا على ترسانة من المفاهيم والنظريات في الهندسة والرياضيات والعلوم التي اكتسبها من دروسه بثانوية ديكارت الشهيرة في الرباط، وفي العاصمة باريس، ليدخل بعدها إلى المغرب ويتحمل مسؤوليته في الهولدينغ الاقتصادي الملكي “أونا”، وبعدها مديرا تقنيا بجامعة الأخوين.

استطاع من خلال عمله وتجربته في إنشاء الشركات وتنمية المقاولات أن يُكَوِّنَ رؤى وعلاقات متشابكة ومتقاطعة مع أصحاب رؤوس الأموال والتدبير السياسي والإعلام وتقنيات التواصل، علاقات متشعبة ساعدته على امتلاك قرار الاختيار بين الأعمال والسياسة.

هناك من يقول إن فشل بلافريج في ميدان الأعمال دفعه للمغامرة في برك السياسة، والواقع أن للرجل وجهة نظر في الفشل والنجاح فالمجتمع بالنسبة إليه لا يتقبّل الفشل، حتّى وإن كان الفشل جزءا من المسيرة الريادية، لكنه مارس السياسة بما تحمله من تحديات خطيرة وكبوات أكبر، فهل بقي ملتزما بمساره الذي تعلّم فيه كيف يستقي الدروس من الفشل من خلال أفضل تجاربه المهنية التي باءت بالفشل.

عندما كان ينتمي إلى زمرة رجال الأعمال بادر إلى القول بأن أهم المزايا التي يجب أن يتحلّى بها رائد الأعمال هي الواقعية، ليعرف كيف يدير ماله ويوظّف الأشخاص ويدير فريقاً، وبعدما تبدلت الأدوار من الأعمال إلى السياسة منذ ولوجه البرلمان، أخذ يتحدى نفسه وقوانين الطبيعة البشرية مكررا على مسامع الناس مفردات غارقة في المثالية.

ارتماؤه في أحضان السياسة لم يأت من فراغ، بل إن العرق دساس، فهو قريب أحمد بلافريج وزير الخارجية ورئيس حكومة ما بعد استقلال المغرب في العام 1956، ومثله الأعلى في السياسة قريبه عبدالرحيم بوعبيد، القيادي وزعيم الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الذي مارس المعارضة الشرسة في زمن  الملك الراحل الحسن الثاني. وقد أراد بلافريج الجمع عن وعي بين خصائص هاتين الشخصيتين البارزتين في التاريخ السياسي المغربي، الأول الذي كان كلما أحسّ بأن هناك شيئا يمس مبادئه التي آمن بها يضع استقالته فوق الطاولة ويذهب بعيدا، والثاني الذي قاد حزبه في أحلك الفترات وشارك في عدة حكومات. تجربة جعلته يجهر بمعارضة النظام في بعض القضايا المحورية ويمارس السياسة ببراغماتية وصدق كذلك.

طالب بلافريج قبل عامين بوقف الجلسة التي كانت مخصّصة للمصادقة على قانون بنك المغرب، لأداء صلاة الظهر، وقوبل طلبه بالرفض من قبل فريق حزب العدالة والتنمية في مجلس النواب، في شخص عبدالله بوانو، في مشهد اعتبره البعض إقحاما لفريضة دينية في شأن سياسي قام به اليساري بلافريج خصوصا وأن دوافعه لم تكن مقنعة لكافة النواب.

الود المفقود مع الإخوان

الخلاف بينه وبين قيادات العدالة والتنمية متشعب، ففي موضوع الحريات الفردية يتهم بلافريج وزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان، المصطفى الرميد، بأنه من خلال تصريحاته أعطى الضوء الأخضر للذين يتبنون الخطاب التكفيري لقتله

انعدام ثقته بحزب العدالة والتنمية الذي يقود الائتلاف الحكومي دفعه للتصويت ضد مرسوم متعلق بقانون للاقتراض كإجراء من الإجراءات لمواجهة جائحة كورونا، معللا ذلك بأن التخوف الحقيقي هو أن تستمر الحكومة في دعم بعض القطاعات المستوردة، وهو دعم غير مشروع، لأنه يخص مستوردات غير ضرورية بالنسبة لبلادنا.

أما مناكفاته مع أعضاء العدالة والتنمية فتدفعه إلى القول بأن الحزب الإسلامي يحاول التحكم في مناقشة المقترحات داخل مجلس النواب، وقد تأسف بلافريج من أن بوانو الذي يترأس لجنة المالية لم يفهم دوره داخل اللجنة عندما يعتبر البرلمان بمثابة غرفة للتسجيل فقط. ويبدو أن علامات الود مفقودة تماما بينه وبين بوانو، فقد اتهمه بالافتقار إلى الجرأة السياسية لمواجهة اللوبي المتوقع أن تدعمه الدولة من خلال القرض الاستثنائي، أو بالتواطؤ مع هذا القرار في غياب وجود شفافية مالية.

بل ذهب بلافريج بعيدا عندما اعتبر أن العدالة والتنمية يحتقر مجلس النواب، ملمحا إلى دعم الحزب للوبي المستوردين من تركيا في زمن رجب طيب أردوغان ما يهدد سيادة واستقرار المغرب.

يصف بلافريج الطريقة التي تحركت بها آلة الإخوان لمواجهة المقترحات المتعلقة بتعديل فصول من القانون الجنائي، بالإرهاب الفكري، الذي انخرطت فيه مختلف التيارات الإسلامية، وعلى رأسها حزب رئيس الحكومة، والتي تؤكد بوضوح كيف يفكر العدالة والتنمية، الذي يدبر اليوم الشأن العام، ويقود الحكومة والمجالس المنتخبة، وفهمه لثقافة الاختلاف ودور المعارضة في الديمقراطية.

لقد ردد بلافريج مرارا أنه لا مزايدات سياسية في القضايا الأساسية التي تخص وطننا، لكن الخلاف بينه وبين قيادات العدالة والتنمية متشعب وقديم، ففي موضوع الحريات الفردية اتهم بلافريج وزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان، المصطفى الرميد، بأنه من خلال تصريحاته أعطى الضوء الأخضر للذين يتبنون الخطاب التكفيري لقتله، وهو أمر قد يجعل بعض المتابعين يفهمون أن العدالة والتنمية الذي ينحدر منه الرميد له علاقات مع تيارات تكفيرية.

بلافريج يطالب حكومة بلده، من موقعه كبرلماني، بمنح الأسبقية للشعوب الأفريقية وخاصة الشعب الجزائري، من أجل أن يحقق اكتفاءه الذاتي من الكمامات والأدوية للتعامل مع وباء كورونا

الانتماء السياسي والإيديولوجي دفع بلافريج إلى المطالبة بإلغاء فصول القانون الجنائي 489 و490 و491، المتعلِّقَة بتجريم المثلية الجنسية والعلاقات الجنسية خارج إطار الزواج والخيانة الزوجية، في إطار مقترحات التّعديلات على مشروع هذا القانون، فهو يرى من وجهة نظره أن الممارسة الجنسية الرضائية بين شخصين راشدين في المنزل مثلا، لا يمكن للدولة أن تتدخل فيها وترسل بموجبها الناس إلى السجن، فهذه الممارسات موجودة ويجب أن نجد لها حلا وليس أن ننافق المجتمع.

مبرر بلافريج الذي ساقه لرفع التجريم عن الحريات الفردية، أن الشباب مخنوق اقتصاديا واجتماعيا وارتفاع سن الزواج من 18 إلى 28 سنة، يدفع البعض إلى إقامة علاقات جنسية دون زواج، تجنبا لتعرضهم لضغوطات نفسية. وعليه فقضية ربط الحريات الفردية بالسماح بالعلاقات الرضائية دون تجريمها يعتبرها تيار المحافظين من لب القضايا الشرعية الأساسية، حيث انتفض ضده هذا التيار عندما دعا إلى عدم تحريم المثلية في الأماكن الخاصة، فيما الأمر يدخل ضمن الحريات الفردية.

ضمن هذا الحيز في الرأي بين قناعتين يمكن أن يتدخل الاجتهاد الفقهي المعقلن، ليحسم المسألة، وإلى ذلك الحين، جرّت آراء بلافريج عليه انتقادات حد التكفير من التيار الإسلامي المتشدد، فقبل عام من الآن قام الداعية عبدالحميد العقرة، بتكفير بلافريج ووسمه بـ”خيانة هذا الوطن”. بعد تكفيره ووصمه بالملحد الذي يسعى إلى نشر الفساد في الأرض رد عمر بلافريج، معلنا أنه علماني ومؤمن بالله، مطالبا منتقديه، أن يقدموا حلولا بدل الحملة الشرسة التي قادوها ضده، ولم يتأخر في إثارة موضوع ظاهرة التكفير بالبرلمان عندما اعتبر أن الديمقراطية بمفهومها السليم هي من يحسم في مثل هذه الظاهرة كونها ترفض لغة التهديد والتكفير.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: