ملف الصحراء: على طاولة من يا ترى؟
محق أن من يمسك بطرف واحد من الخيط ليس هو بالضرورة من يملك البكرة كلها. ومحقق أيضا أن طرفين رئيسيين في نزاع الصحراء هما المغرب والجزائر، يمسكان ببعض خيوط الملف، لكن التطورات التي حصلت على مدى سنوات، جعلت قوى خارجية إقليمية ودولية تسحب منهما كثيرا من الخيوط المهمة، قبل أن تتمكن من التحكم في جانب كبير منه وتؤثر في مجرياته لحد ملحوظ.
وربما جلبت بعض الأخبار حول احتمال سحب ذلك الملف من الجيش الجزائري قدرا من الاهتمام. غير أنه سيصعب تصديق ذلك، أو توقع تغيير في قواعد الصراع الجزائري المغربي، قد يعجل بإعادة عرض المشكل الصحراوي على الطاولة الثنائية، دون غيرها من الطاولات. فالقضية بغض النظر عما نشرته منذ أيام إحدى الصحف الإسبانية بشأن دوافع إنشاء وكالة جزائرية للتعاون الدولي، ليست هي نقل صلاحية من هذه الجهة إلى تلك، ولا التخطيط فقط لما سيحصل على المدى القريب والمتوسط لأعداد غير معروفة من البشر، يعيشون منذ أكثر من أربعة عقود، في ظل أوضاع إنسانية بالغة الصعوبة والقسوة، بقدر ما هي توصل طرفي النزاع لأسلوب جديد للتعامل مع المشكل، والنظر إليه بعمق استراتيجي، ومن اكثر من زاوية واحدة، والاقتناع التام بأن أي صيغة، أو شكل للحل المرتقب، سيتقاطع بدرجة أو بأخرى مع مصير ومستقبل ملايين الجزائريين والمغاربة على السواء، ولن يكون بالنهاية نافعا أو ضارا بأحدهما على حساب الآخر.
وسواء كانوا لاجئين بنظر الجزائر، أو محتجزين بحسب الرباط، فإن الصحراويين الموجودين في مخيمات تندوف، سيؤثرون في مصير الإقليم المغاربي بأسره، ولن يكون سهلا على أحد أن يتجاهل ما يمكن أن يسببه بقاء قضيتهم من دون حل، من تداعيات مباشرة وخطيرة على الأمن والاستقرار القطري والإقليمي. لكن إن سألناهم اليوم، وبعد ما يقرب من نصف قرن من قيام البوليزاريو، عما يتطلعون له بالضبط، فلن نسمع منهم بالتأكيد جوابا واحدا. فقد يرد البعض منهم بأنه لايزال يتمسك بحق تقرير المصير، أو بعبارة أدق تحقيق الاستقلال عن المغرب، رغم ضعف الآمال في التوصل لذلك، وقد يعقب آخرون بان كل ما يريدونه بعد مرارة التجربة ووصولها إلى طريق مسدودة، أن يعيشوا بسلام وأمان داخل المملكة المغربية. ولكن الأمر قد يكون أبسط من هذا وذاك. فمعظم من يعيش الآن داخل تلك المخيمات، لم يعد يعنيه شيء سوى الاهتمام بقضية مصيرية هي النجاة من مخالب ثالوث المرض والجوع والبؤس، وربما لم يعد يشغله كثيرا في خضم ذلك التفكير في ما يخبئه له المستقبل من أحداث وتطورات حلوة أو مرة.
لقد أعطتهم الأسابيع القليلة التي مضت، دليلا آخر على أنهم لم يكونوا سوى ورقة تنافست الجارتان المغاربيتان طويلا للفوز بها بأي ثمن. فبعد أن قدم المغرب عرضه «الإنساني» غير المباشر لمنحهم مساعدات، في مناورة وتحد واضح للسلطات الجزائرية، التي قيل إنها أغلقت في وجوههم حدود تندوف، بعد تفشي وباء كورونا، ولم تقدم لهم بالمقابل أي مستلزمات طبية أو تموينية لمواجهته، عاد الجزائريون الجمعة الماضي للظهور من جديد كلاعب وحيد على الساحة الصحراوية، بعد أن حطت ست طائرات عسكرية في مطار تندوف، محملة بأطنان من المواد الطبية والغدائية الموجهة لسكان المخيمات. ولم ينس زعيم البوليزاريو، وهو يستقبل وزيرة التضامن الجزائرية عند إشرافها على إيصال تلك المساعدات، أن يشكر الجزائر التي قال عنها إنها «دائما ما نجدها عندما نحتاجها». لكن الرسالة الأهم من وراء تلك اللفتة، جاءت مساء اليوم نفسه، في حديث أدلى به الرئيس الجزائري لمجموعة من الصحافيين المحليين. ولم يكن من قبيل الصدفة أبدا أن يربط عبد المجيد تبون بين الصعوبات الاقتصادية، التي قد تواجهها الجزائر جراء انهيار اسعار البترول في السوق العالمية، ومخاطر تعرض السيادة الوطنية لبلاده للتهديد في حال اضطرارها للجوء للاقتراض الخارجي ويمضي أبعد من ذلك ليقول إن اللجوء للبنوك الأجنبية، يعني فقدان تلك السيادة، وعدم القدرة على الكلام، لا عن فلسطين ولا عن الصحراء ولا عن الجيد وغير الجيد. ولعل بعض ما قصده تبون من وراء ذلك وفي ما يتعلق بالقضية الصحراوية بالتحديد، أنه لم يعد بوسع الجزائر أن تنفق على الصحراويين إلى ما لانهاية، وأن زمن تقديم الشيكات على بياض قد ولى وانقضى بعدما لاح شبح الأزمة المالية، وبات يهدد البلاد بشكل جدي وغير مسبوق.
كسر الجليد بين الطرفين المغربي والجزائري يمرّ حتما عبر التوصل لعقد قمة ثنائية بين الرئيس والملك تكون مقدمة ضرورية للتوصل لحل
ومع أنه لا يبدو أن هناك دليلا قويا يثبت ما ذهبت إليه صحيفة «اتالايار» منذ أيام، من أن الغرض من مبادرة تبون بإنشاء وكالة للتعاون الدولي هو «انتزاع السيطرة على السياسة الخارجية من الجيش والمخابرات، وتهيئة الظروف بحيث يصبح ملف الصحراء المغربية، والأزمة السياسية الاستراتيجية، التي تعاني منها المنطقة المغاربية مرة أخرى من صلاحيات رئاسة الجمهورية، «إلا أنه لن يكون مستبعدا أن يكون الرئيس الجزائري، قد عبّر لقادة المؤسسة العسكرية عن رغبته في مراجعة الدعم التقليدي للبوليزاريو، أو حتى تقديم جرد مفصل بما قدمته الجزائر، وما أمكنها أن تكسبه وتجنيه من وراء ذلك الدعم. ولكن ما لم يقله الرئيس الجزائري هو، إن كانت بلاده تواجه ضغوطا ما في الملف الصحراوي بالذات، أو في ما إذا كانت هناك بعض القوى أو الأطراف الأجنبية قد حاولت حثها على القبول بخطط أو تصورات بديلة قد تطرحها في وقت مقبل.
ولعل الأمر قد لا يختلف كثيرا بالنسبة للطرف الآخر، فمن الواضح أن المغاربة يواجهون بدورهم حملات إعلامية عنيفة وحادة، تستهدف فقط في الظاهر نظامهم. غير أنه ليس مؤكدا بعد ما إذا كانت تلك الحملات جزءا من ضغوط سابقة مارستها بعض الجهات، ضمن ما أطلقت عليه وسائل إعلام إسرائيلية صفقة من صفقات القرن، تقوم على مقايضة اعتراف امريكي بمغربية الصحراء باعتراف مغربي مواز بالكيان الإسرائيلي. ومع أنه يبدو صعبا أن يحصل الآن أي اختراق فوري أو حقيقي، إلا أن كسر الجليد بين الطرفين المغربي والجزائري يمر حتما عبر التوصل لعقد قمة ثنائية بين الرئيس والملك تكون مقدمة ضرورية لذلك. لكن هل يحتاج مثل ذلك الامر لجهد طرف ثالث؟ وهل سيكون بوسع المغاربة والجزائريين، أن يتفقوا على حلّ مشترك للأزمة، في ظل سعي كل واحد منهما للترويج لرؤيته الخاصة؟ ربما سيتعين عليهم أن يقتنعوا عاجلا أم آجلا، بأنه لم يعد ترفا أن يرجع الملف إلى الطاولة الثنائية، لأنه لن يكون بوسعهم أن يتحملوا العواقب الوخيمة، التي قد يسببها نفاد صبر اللاجئين أو المحتجزين في المخيمات، وتحولهم، لا قدر الله، إلى قنابل موقوتة. فليس مؤكدا متى حصل ذلك أن يبقى حينها فرق واضح بين مغربي عدو وجزائري صديق لان الجميع حينها وبلا استثناء سيكونون في الصف الخاسر نفسه.