كورونا يثبت أن الجامعة العربية حبر على ورق

هل كان الحالمون العرب بحاجة ليؤكد لهم فايروس مثل كورونا أن الجامعة العربية حبر على ورق، هل هناك من انتظر أن تخالف إدارتها التوقعات وتتخذ قرارات معنوية كفيلة بالإيحاء أنها لا تزال موجودة، ويمكن تطوير الأداء إذا توافرت الظروف؟

لن أدخل في جدل أن دور أي منظمة إقليمية هو حاصل جمع الدول الأعضاء فيها، فلم نطلب أن تعلن الجماعة قرارا بالحرب أو السلام. فالمطلوب الارتفاع إلى مستوى الحدث، لأن الانخفاض الزائد عن الحد يتساوى مع الوفاة الإكلينيكية، إلى حين كتبة الشهادة رسميا.

جاءت فرصة ثمينة لهذه الجامعة لإظهار التضامن في مواجهة جائحة صحية، لا تحتاج لحسابات سياسية تحتمل الخلافات العربية العميقة، فلا توجد مواقف متباينة، فالكل في الهم كورونا. البحث عن توفير المعدات الطبية اللازمة. الاجتهاد في إيجاد لقاح للعلاج. وتداول الوسائل الممكنة لتقليل الخسائر. فلم تترك الأزمة بلدا إلا ونالت منه بدرجات متفاوتة.

هذه من المرات النادرة التي كان من المفترض أن يتوحد فيها العالم العربي في التصدي لخطر داهم. لا فرق فيه بين مشرق أو مغرب، أو بين محور مقاطعة وممانعة ورفض ومقاومة، وآخر يتجاوب مع السلام ويؤمن بالمرونة والاعتدال، إلى آخر المفردات التي درج العرب على تداولها منذ زمن، واستغرقوا في التوصيفات أكثر من استغراقهم في التصرفات.

عقدت الكثير من المنظمات الإقليمية والدولية اجتماعات “أونلاين”، ربما لم تتمخض عن شيء كبير في التعامل مع كورونا وروافده، أو تقدم معلومات كافية عن آلية التعاطي مع تداعياته المرعبة، لكنها عززت الحضور السياسي الرمزي للبعض. حتى هذه وقد أدمنتها الجامعة العربية تخلت عنها بإرادتها، وعجزت عن اللحاق بها، ما أفقدها آخر أسلحتها.

كان من الممكن البناء على هذا الوباء الجامع في الدعوة إلى اجتماع عبر الفيديو كونفرانس، على مستوى القمة أو حتى على المستوى الوزاري، ودراسة التهديدات التي تمثلها الجائحة، لتأكيد أن الكيان المعنوي الممتد لنحو ثمانية عقود لا زال موجودا، وقد تكون له فوائد في الأزمات الكبرى عندما يُحسن التصرف معها.

خيبت الجامعة الحد الأدنى من الظنون الإيجابية، وفوتت التقاط المضامين التي يحملها مجرد التفكير في اللقاء وسط هذه الأمواج، وما يشير إليه من دلالات بعيدة. فأي اجتماع في هذه الأجواء لن يتحمل التراشقات المعتادة، وغير مسموح فيه بالتجاذبات التي نعرفها جيدا، ولن تكون هناك فرصة للخارجين عن الأعراف والتقاليد ومن يحرصون على تخريب الدور الجماعي العربي وتغليب مصالحهم الشخصية.

استلزمت أزمة كورونا الصحية التكاتف والتعاون للتفكير في حلول عملية، حتى لو كان نصيب العرب في العلم ضئيلا أو منعدما، فقد حمل كوفيد – 19 في جوهره رسالة أو ملمحا مهما خاصا بالتنسيق بين الدول في الحصول على المعدات الطبية، وتسابق البعض في تقديم الهدايا والعطايا لدول مختلفة، في ظاهرها تنطوي على تضامن في مواجهة الجائحة، وفي جوهرها لا تخلو من ملامح سياسية.

فضلت دول كثيرة الحلول الفردية بعد فقدان الثقة في المنظمات الإقليمية لتقديم مساعدات متباينة. لم يكن مطلوبا هذا الدور من الجامعة العربية، لأنها تفتقر إلى هذا المحدد عمليا، كان بإمكانها أن تصبح مظلة لترتيب توصيل المعونات من دول الوفرة إلى الندرة، وتخفيض تأثير الخلافات السياسية على الأمور الصحية والإنسانية.

قدمت بعض الدول العربية مساعدات للولايات المتحدة والصين وإيطاليا وغيرها من الدول الواقعة في مقدمة الصدارة العلمية والمادية، ولم تكن المساعدات المرسلة إلى دول عربية مثل السودان والصومال وموريتانيا وجيبوتي على المستوى نفسه. فهذه دول منها من تملك أجهزة تنفس صناعي يمكن عدها على أصابع اليدين. وهي واحدة من الحلقات والمفارقات التي أثبتت أن تعامل غالبية الدول مع كورونا كان سياسيا. وحوّل البعض المعدات الطبية إلى وسيلة دبلوماسية لخدمة أغراض خفية.

فقدت الجامعة العربية ورقة صحية تحمل علامات سياسية جذابة، كفيلة بتقليل حجم المشاحنات. لم تجرؤ قيادتها على طرح رؤية لتوصيل المساعدات العربية إلى مستحقيها العرب أيضا، بما يشي بأن كيانها لم تنضب منه الدماء وقد تدب فيه الحياة إذا استثمر الفرصة، لأن اللحظة الراهنة تفرض النظر إليها بروية وقليل من الجمود العقلي. لحظة يبدو فيها التسامح مقدما على العداء.

إذا لم تكن الجامعة العربية على مستوى المسؤولية المعنوية هنا، فمعنى ذلك أنها فقدت ما تبقى من روحها ودورها، وكتبت شهادة نعيها بنفسها.

حفرت الجامعة العربية قبرها منذ سنوات عندما أخفقت في مواجهة التحديات المتعاظمة على الأصعدة الاستراتيجية، وجرى الصبر عليها على أساس أن قدراتها قليلة، ورضي كثيرون بالشق الخاص باللقاءات والاجتماعات دون الحصول على نتائج عملية وإحراز تقدم يتناسب مع البيئة الحافلة بالصراعات، أملا في حدوث تحولات تجبرها على التجاوب مع الطموحات.

تراجعت فرص التغيير وتباطأت التطلعات وحافظت الجامعة على وجودها كمبنى أصم يعكس الجمود في التفكير، والعقم في الأداء الجماعي العربي. مع ذلك راودت الأحلام البعض في أن يأتي وقت ترتفع فيه إلى مستوى المهام التي يجب القيام بها. ولأن الأزمة الحالية جسيمة بما فيه الكفاية ولم ترتق إلى مستواها، فقد باتت كتابة شهادة نعيها رسميا قريبة.

احتفظت دول عربية بالنعي ولم تشأ إعلانه خوفا من توجيه اتهامات تتعلق بعدم الترحيب بالبعد العربي في التعاون. لم تجرؤ دول أخرى على الافصاح عن عدم حاجتها لجامعة أضحت محلا للشجار بدلا من الوفاق. حاولت قلة إصلاحها من خلال تقديم مبادرات من حين لآخر. هناك من حافظوا عليها لتوظيفها في قضايا سياسية معينة عبر ضمان الحصول على الأغلبية عند التصويت، وهي قيمة محدودة وبدأت تفقد بريقها. جرف كورونا معه كل الفوائد القليلة التي يمكن أن تقوم بها الجامعة العربية، ولم يترك لها فرصة للمناورة والمساومة كالعادة، لأنها لم تحسن التعامل مع ما أفرزه الوباء من توازنات تتخطى الحدود الصحية، ما يجعلها تفقد الوعي العام وتوشك على التداعي والانهيار التام.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: