هل يختلف المثقفون عن غيرهم في زمن الحجر الصحي

يعيش العالم في جو من العزلة داخل المنازل والتباعد الاجتماعي تسببت فيهما جائحة كورونا، وكل العائلات في المغرب كغيره من البقاع تمر بفترة الحجر الصحي، ولا يستثنى الكتاب والمبدعون والمثقفون من هذا الوضع في الحد من أنشطتهم، حيث حرموا من فضاءات اللقاءات الأدبية والمهرجانات الثقافية والفنية وتحدد وجودهم الفيزيقي في بقعة مكانية ضيقة. “ أخبارنا الجالية استطلعت تأثير الحجر على الأدباء المغاربة.

تفاعلت “ أخبارنا الجالية مع وضعية العزلة التي فرضها الحجر الصحي على المثقفين والمبدعين المغاربة، في محاولة لمعرفة جزء من حياتهم اليومية، كتأريخ للمرحلة ومحاولة لمشاركتهم بعضا من تدابيرهم الإنسانية الإبداعية في تعاملهم مع محيطهم القريب والبعيد وكيفية تعاطيهم مع خصوصيات هذا الوضع، الذي اعتبره البعض مناسبا للكتابة في حين رأى آخرون أنه فرصة لترتيب الأولويات والعلاقات الاجتماعية.

نتساءل هنا هل تأثر هؤلاء المبدعون والمثقفون سلبا من تداعيات كورونا؟ على اعتبار أن كلّا من المبدع والمثقف ابن بيئته، يتأثر كل بما يحيط به، ويتشارك مع الآخرين في لحظات الفزع والحزن والمرح والترقب، خلال فترة الحجر الصحي التي يعيشها العالم اليوم.

الحياة أولوية

يقول الناقد الثقافي والأكاديمي يحيى بن الوليد لـ”أخبارنا الجالية إنه يقضي الفترة كما هو مطلوب من الجميع، ملتزما ببيته، ولا يخرج إلا للضرورة، مرّة في ثلاثة أيام، ويحصل أن يخرق المدة طالما أنه المسؤول عن عائلته الصغيرة، مضيفا انه لحسن الحظ فقد تواجد بيته بوسط غير مضغوط بالكثافة السكانية، ويتوفر به مركز تجاري كبير يقصده في التاسعة صباحا تفاديا للازدحام الذي لا يزال قائما.

وبالنسبة إلى القاص والروائي إدريس الصغير، فقد كان من المفروض أن يسافر إلى إسبانيا كعادته، فله هنالك طرف ثان من أسرته الصغيرة، لكن الحجر الصحي أبقاه في المغرب، موضحا “الحجر الإجباري غير معهود في طبعي أنا الذي كنت أخال نفسي متحررا من جل القيود”.

ويؤكد الصغير أنه يحمل الآن كبقية المواطنين تصريحا للخروج في حالة الضرورة القصوى تنتهي صلاحيته في الساعة السادسة مساء، مضيفا أنه حتما يشاهد التلفزيون متتبعا أخبار الوضع الصحي، في قنوات لا حصر لها، متوقفا عند برنامج وثائقي أو فيلم من تحف السينما الخالدة.

وكان من عادة الصغير أن يجلس في المقهى مرتين في اليوم، يفطر فيها يوميا ويقرأ الصحف ويكتب إن كان له مزاج الكتابة، وفي المساء يتوسط ثلة من أصدقائه الأطباء في ذات المقهى، وهو يقول لهم مازحا، جلوسي بينكم يشعرني بالأمان. وما وقع في هذه السنة لم يكن في الحسبان بتاتا بالنسبة للمخرج السينمائي عزالعرب العلوي، فقد توقف عن تصوير فيلم وثائقي كان يعمل على إنجازه، وتم إلغاء ثلاث سفريات في نهاية شهر مارس الماضي وأربعة مهرجانات دولية.

سينمائيون وكتاب ومبدعون منشغلون بأمور أسرية بسيطة، وبقضاء أيامهم في محاولة ترميم ذواتهم وأعمالهم وأفكارهم

ويقر العلوي بأن الحجر الصحي جعله يعيد ترتيب علاقاته الاجتماعية وإصلاح ذات البين والتواصل مع الأصدقاء والسؤال عليهم، كما جعله يعيد مشاهدات أفلام لم يكن يتصور أن لديه الوقت لإعادة مشاهدتها، كما يقوم بتمرينات رياضية بسيطة.

وبالنسبة إلى الناقد والأكاديمي يحيى بن الوليد فيقول “لا أخفي عنكم أنني شديد العزلة، ومتعود على بيتي، ولا علاقة لي مباشرة سواء بالكتّاب أو زملائي في التدريس بالجامعة المغربية، فبرنامجي مضبوط، وأجدّد صداقاتي المتباعدة مع أناس في الطب والقانون”.

أما المخرج والناقد السينمائي عبدالإله الجوهري، فقد بعثرت الجائحة الكثير من أوراقه، وهزت بعضا من آماله وأحلامه، وفرضت عليه الحجر، مثل ملايين البشر في العالم، يقول “لقد ضيقت على تحركاتي، وحدّت من خطواتي، وبالتالي أثرت بشكل مباشر على مشاريعي المهنية المختلفة، ما فرض علي الركون إلى الذات، ومعاودة الحسابات في محاولة لترتيب البرنامج العام، لما بعد الخروج من الحصار”.

ويعتبر عبدالحميد الغرباوي القاص والروائي والمترجم المغربي، الحجر الصحي عزلة وليس وحدة، وتتلخص عزلته بقوله “قرابة سنة قبل اجتياح الوباء كنت قد ألزمت نفسي بنظام صارم، أخصص النصف الأول من اليوم لقضاء بعض المآرب، وألازم البيت وتحديدا مكتبي في النصف الثاني منه، ولا أخرج إلا في صباح اليوم التالي، وقد لا أخرج، وهكذا أقضي أربعا وعشرين ساعة فارضا على نفسي حجرا نفسيا”.

وإذا كان بعض المثقفين يرون أن فكرة التوقف عن متابعة الأخبار بشكل أو بآخر لن تكون سيئة، فعبدالحميد الغرباوي اختار الفترة الليلية ليتابع ما جدّ من خلال القنوات الإخبارية الفرنسية والعربية، ثم ينتقل إلى قنوات الأفلام يختار قناة ويتابع أحداث الفيلم الذي تبثه، وأحيانا يختار فيلما من خزانة أفلامه.

الإبداع في الحجر

التباعد فرصة للإبداع (لوحة للفنان محمد قنيبو)
التباعد فرصة للإبداع (لوحة للفنان محمد قنيبو)

يعترف يحيى بن الوليد أن حدث كورونا ليس بالحدث السهل، خاصة وأنه كان له تأثير على المزاج والقدرة على التركيز، وليس غريبا أن يسعى المرء إلى القراءة السريعة في الموضوع بغية فهم الحدث غير المسبوق بالنسبة إلينا، ثم إن انفجار وسائل الإعلام وتعددها ربما أسهم في تقريب الحدث وعدم جعله بعيدا وغريبا، على الأقل مشاهده الكبرى التي تلتقط وتقدّم دونما تخييل.

ويضيف “عليه فقد كان لا بد من أن تتغيّر العلاقة مع القراءة ومحتويات المقروء وأن تخضع لتحوّل جذري، ففي هذه اللحظات لا تمكن قراءة المناهج النقدية والنظريات الأكاديمية، فالمسألة مسألة حرب بيولوجية وفايروسات معدّلة لذا فالأولوية لمحاولة فهمها”.

وبخصوص الندوات واللقاءات يقول بن الوليد “لا ألبي أكثرها، لكن هناك مؤتمرات مهمة، خاصة وأن الإسهام فيها يكون ببحوث محكمة ومع نخبة وباحثين من المغرب وخارجه، وهذا له تأثيره من دون شك”.

وفي عمر 68 عاما صار الغرباوي يرى في خروجه إلى الحياة العامة وجلوسه في المقهى مضيعة للوقت، حتى اللقاءات الثقافية الرتيبة والتي تكرر نفسها مضيعة للوقت كذلك، مع أن هذا لا يعني القطيعة مع العالم الخارجي وعدم التفاعل مع مستجدات وأحداث الحياة الثقافية والعامة داخليا وخارجيا.

ويقول الغرباوي “مع الحجر الصحي المفروض، ازددت تعلقا بعشرات الروايات والمجاميع القصصية وكتب الشعر في مكتبتي، إذ قبل الحجر الصحي كان عملي الإبداعي موزعا بين التشكيل والكتابة، ومراجعة وتنقيح نصوص أعدها للنشر، وخلال الحجر شرعت في تجميع مادة لإنجاز مشروع أفضل ألّا أفصح عن نوعه وشكله الآن إلى أن تنفرج الغمة”.

ودائما على مستوى العلاقة مع القراءة يقول إدريس الصغير “أطالع بنفس الطريقة التي تربيت عليها منذ الصغر (وهي أن أقرأ كتابين أو أكثر في نفس الوقت بالتداول) ولعلها عادة مستقبحة، لكنني متعود عليها”، مستدركا “إن الإبداعات الجيدة تشدني فأطالعها من الغلاف إلى الغلاف، وهذه المرة وعلى غير العادة أكتب راكبا مغامرة غير مأمونة العواقب، لكنني أكتب ببطء شديد”.

ويضيف الصغير “الآن كل شيء مؤجل، السفر والعمل الجمعوي والمقهى والحانة والملعب والندوات، إلا القراءة والكتابة، والاتصال بالأصدقاء والأحباب عبر الهاتف، حدث هام كذلك تم تأجيله وهو حفل تقديم مكتبة المرحوم عبدالرحيم مودن، هبة للمكتبة الوسائطية بمسجد الحسن الثاني، حيث كنت سأشارك فيه بشهادةٍ رفقة العزيز أحمد بوزفور”.

“أعيش لحظات استثنائية غنية من حيث القراءة” يقول عبدالإله الجوهري لـ”أخبارنا الجالية “.

ويضيف المخرج “أخذت في قراءة الكثير ممن لم يكن يسمح لي به الوقت من قبل (روايات وأشعار وكتب مختلفة في الدين والعلم)، ومشاهدة العشرات من الأفلام المغربية والدولية التي فاتتني من قبل مشاهدتها، وهي في عمومها أفلام كلاسيكية، كما أن الحجر منحني وقتا إضافيا مهما، لإتمام بعض المشاريع، خاصة منها مراجعة مشروع سيناريو فيلم سينمائي”.

وفترة الحجر الصحي بالنسبة إلى يحيى بن الوليد، فرصة للتأمل والمراجعة فالحدث هزم، حتى الآن، إمبراطوريات ضخمة ودولا عظمى، هذه حرب كونية من دون رصاص أو مؤتمرات أو دسائس ودعاية.

ويقول الناقد “الأكيد أن عالم ما بعد كورونا ليس هو عالم ما قبله، خصوصا في الجانب القيمي من مخلفات الوباء، فلأول مرّة تساوى الجميع الذين أدركوا أن الحياة ليست أرقاما أو جداول وخطاطات بسيطة”.والعودة إلى القراءة والكتابة الإبداعية كان الحدث الأبرز عند عزالعرب العلوي، خاصة وأنه انشغل كثيرا مؤخرا في تسويق الفيلم السينمائي “كيليكيس دوار البوم”، إذ تمكن هذا العمل من المشاركة في أكثر من ستين مهرجانا دوليا وبالتالي استنزفه زمنيا، وكذلك الرجوع إلي إعادة كتابة نسخ السيناريوهات التي كتب مسوداتها منذ سنين وظلت تنتظر الالتفات إليها من جديد.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: