المواقف السلبية للدول المغاربية، هي التي أعطت في كثير من الحالات الضوء الأخضر لأبوظبي، وربما شجعتها على أن تتمادى في سياساتها
ما الذي يحدد نفوذ الدول؟ هل وحده المال من يصنع ذلك، إن صح الأمر فكيف تترنح اليوم من قدمت بالأمس كقوة احتلال، لم يتوان البعض عن وصفها بالامبراطورية؟ صحيح أنها لم تندثر وتسقط بعد، لكن الإمارات قد تكون وضعت قدما أولى نحو ذلك، بعد ان بدأت بعض مؤشراتها بالنزول، ووصل الأمر بإحدى إماراتها وهي، أبوظبي، أن تقترض سبعة مليارات دولار لتعويض السيولة النقدية التي فقدتها جراء تراجع أسعار النفط الخام، فيما لا يلوح أن الأيام المقبلة ستكون بالنسبة لها أحسن وأفضل.
لكن إن كانت هي اليوم كذلك فليس هناك ما يدل بالمقابل على أن الشمال الافريقي، بغض النظر عن التطورات الأخيرة، سيكون مجالا لسيطرة إماراتية، طالما دقت نواقيس التحذير منها، غير أنه سيكون من التهوين أيضا، أن لا يؤخذ مثل ذلك التوسع المتنامي لأبوظبي في ذلك الجزء من العالم بعين الاعتبار. ولعله سيغيب عن بال الكثيرين التنبه لذلك الآن مع انشغالهم بتداعيات وباء كورونا، الشيء الذي يتقاسمه معهم الإماراتيون بالطبع، ولو أن هؤلاء ضاقوا ذرعا، على ما يبدو، في خضم ذلك الانشغال بنوع محدد مما يرونه كذبا وخداعا غير مقبول.
المواقف السلبية للدول المغاربية، هي التي أعطت في كثير من الحالات الضوء الأخضر لأبوظبي، وربما شجعتها على أن تتمادى في سياساتها
فابتداء من السبت الماضي بات على كل إماراتي، أو مقيم في الإمارات، أن يفكر مرتين قبل أن «ينشر أو يعيد نشر أو تداول المعلومات، أو الإرشادات الصحية الكاذبة أو المضللة، أو المغلوطة، أو غير المعلنة رسميا، أو غير المعتمدة من وزارة الصحة ووقاية المجتمع، أو الجهة الصحية، أو المخالفة لما تم الإعلان عنه، وذلك باستخدام وسائل الإعلام المسموعة أو المقروءة أو المرئية، أو وسائل التواصل الاجتماعي، أو المواقع الإلكترونية، أو وسائل تقنية المعلومات أو غيرها من طرق النشر أو التداول». إذ وفقا لما قرره مجلس الوزراء الإماراتي، ستفرض غرامات تصل إلى أكثر من خمسة آلاف دولار أمريكي على كل من ينشر ويتبادل معلومات صحية، خاصة بالامراض السارية والأوبئة والمعلومات الخاطئة ذات العلاقة بصحة الإنسان، لكن بغض النظر عن دوافع القرار وخلفياته، فإنه لن يسري على كل الأفعال الشبيهة، التي تقترف في علاقة بالوضع الصحي، في دول شقيقة أو صديقة كالمغرب مثلا. فلن تكون جهة إعلامية شبه رسمية كقناة «العربية» على سبيل الذكر، في موضع اتهام أو تحقيق في صحة ما قد تبثه من تقارير إخبارية تخص تلك الدول، ولن تُسأل عن الأرقام التي تنقلها مثلا حول أعداد المصابين والمتوفين، جراء الفيروس في المغرب، فضلا عن أنها لن تكون بالطبع محل انتقاد عن أي تقارير تقدمها، بما في ذلك الذي بثته أواخر الشهر الماضي، وأظهرت فيه إحدى السيدات المغربيات، وهي تبكي وتصرخ من الجوع في الحجر الصحي، على حد ما نقلته، ما أثار انزعاجا مغربيا في حينه، والسبب هو أن ما يصدر عن الأفراد في ذلك البلد الخليجي شيء، وما تقوم به السلطات أو توحي لآخرين للقيام به لحسابها شيء آخر.
فلا يبدو أن الخضوع للمساءلة حتى المعنوية والرمزية، من شيم أو عادات القادة الإماراتيين، لأنهم ليسوا معنيين بتقديم أي تبرير أو تفسير لما يقومون به أو يفعلونه، ولذا فليس بإمكان أحد أن يعرف منهم أي شيء، بما فيه دوافع حملتهم الإعلامية الأخيرة على الرباط، أو يتوسع أكثر فيستفسر منهم عن سبب تغللهم وإقحامهم أنفسهم في شؤون مناطق مختلفة من العالم كالشمال الافريقي. غير أنه سيكون من الممكن أن ندرك بالمقابل شيئا آخر، وهو أن المواقف السلبية للدول المغاربية، هي التي أعطت في كثير من الحالات الضوء الأخضر لأبوظبي، وربما شجعتها على أن تتمادى في سياساتها، بثقة واطمئنان وغرور أيضا، فلم يكن حطام الطائرات الإماراتية، الذي عرضته حكومة الوفاق الليبية، أكثر من مرة، ولا اعترف قائد عسكري في ميليشيا حفتر، أواخر العام الماضي بأن الإماراتيين يديرون الطيران المسير التابع للأخير بشكل كامل من قاعدة الخروبة، وأنهم يملكون أيضا غرفة عمليات خاصة بهم في منطقة الرجمة، ليدفع المغاربيين للتنبه لخطورة ما يقوم به الإماراتيون في المنطقة، ولا كانت نواياهم في إنشاء قاعدة عسكرية في موريتانيا بالقرب من الحدود الجزائرية، أو استفزازاتهم المتكررة للمغرب، آرائهم المشبوهة في إرباك المسار السياسي في تونس، كفيلة بأن توقظهم من سباتهم وتجعلهم يخرجون عن تحفظاتهم، ومحاولاتهم تخفيف أو تبسيط ما يحدث. ولكن هل كانت عيون الإماراتيين على الموانئ؟ أم أن طموحهم كان في أن يضعوا يدهم على مناطق محددة، أو حتى على قواعد عسكرية في مناطق استراتيجية من الشمال الافريقي؟ بقدر ما تعددت وتنوعت الصفقات التي قادتهم ليمارسوا ما يعرف بدبلوماسية الشيكات، بشكل نزق ومبالغ فيه، فإن مساوماتهم مع دول المغرب الكبير اختلفت من بلد إلى آخر. ومع ذلك فلم يكن غريبا أن تنشب بين الحين والآخر أزمة بين الإمارات ودولة من دول المغرب، ففي السنوات العشر الأخيرة خرجت محاولات أبوظبي للتدخل والتأثير في تلك المنطقة عن العد والحصر، ولم يعد ممكنا لأحد أن يعرف كم مغامرة خاض الإماراتيون في الدول المغاربية الخمس. ولعدة اعتبارات بقي المغرب أقرب البلدان المغاربية لأبوظبي. لكن منذ عام سحبت الإمارات سفيرها في الرباط على خلفية الموقف المغربي من حصار قطر، بحسب ما تردد، فيما بادر المغرب بدوره الشهر الماضي لسحب سفيره في عاصمتها.
وجاءت قصة الخلاف الأخير على ترحيل إسرائيليين من المغرب، بحجة عدم تشاور وتنسيق الإماراتيين الذين تطوعوا للقيام بذلك مع السلطات المغربية، لتزيد من حدة التوتر بينهما.غير أنه سيكون من المبالغة ان نتصور، لا فقط من خلال ما بات يعرف الآن بالأزمة المغربية الإماراتية الجديدة، بل حتى من خلال الأزمات الأخرى التي أشعلتها الدولة الخليجية مع تونس وليبيا، وحتى الجزائر، أن ذلك يؤشر إلى قوة النفوذ الإماراتي في تلك البلدان، بعد أن تمكنت ابوظبي من ان تنشأ قواعد عسكرية في ليبيا، وتكسب وجوها سياسية وأصواتا إعلامية في تونس والمغرب، وربما حتى موريتانيا والجزائر. فمن قال إنه باستطاعة ابوظبي وبفضل ما اشترته، أن تطيح بسهولة بهذا النظام أو ذاك، أو تحمي آخر أو تمنعه من السقوط؟ لقد دلت تجربتا تونس والمغرب، من خلال وجود إسلاميين في السلطة، على أن ذلك ليس مفروغا منه، وأثبتت هزائم حفتر واندحاراته العسكرية، على أن فرض الأنظمة بالقوة لن يكون يسيرا فيما قدم الحراك الجزائري الدرس البليغ على أن لا قوة إقليمية أو دولية، يمكنها ان تزعزع إرادة الجزائريين. لكن على عكس الشعوب، فإن صمت الأنظمة هو ما يضخم على الأرجح النفوذ الإماراتي. أما ما الذي يجبرها على التزوير والخداع والمبالغة في إخفاء الحقيقة؟ فالمؤكد أن الجواب لن يكون في العواصم المغاربية، أو في أبو ظبي، بل في مناطق اخرى مثل مصارف واشنطن وباريس أو ربما حتى تل أبيب!