لماذا رجال ديننا رجعيون، وعالَمهم لا يُبصرون؟
يقف على رأس الكنيسة الكاثوليكية في العالم رجل دين تقدمي. حتى أنه يساري التقدمية أيضا. و”تقدمي” بمعنى أنه يتبنى من القضايا العامة ما يجعله يقف وراء الدعوات لمكافحة الفقر، وتعزيز المساواة بين البشر، ونبذ العنصرية، وقبول اللاجئين، ودعم سياسات الحد من التلوث، والحفاظ على المناخ، وردم الهوة بين الأغنياء والفقراء، والحد من البطالة، والتآخي بين الأديان. وكانت الدعوة إلى إلغاء ديون الدول الفقيرة أحد آخر مطالبه. ولعمري، إني لأراه مسلما. فالإسلام هو دين العدل والمساواة والخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فلماذا رجال ديننا لا يرتقون إلى مستوى مشاغل هذا الرجل؟ ولماذا ينشغلون بالصغائر ويهملون الكبائر؟ وما الذي يجعلهم بعيدين عن الحياة العامة وهمومها وقضاياها؟ أهو الفقه؟ أم سوء التصرف بالدين نفسه؟
التلوث البيئي منكر. فهل سمعت رجل دين في عالمنا العربي يدعو إلى مكافحته؟ والبطالة والفقر منكران، فهل اتخذ رجل دين منهما قضية يجعلها تقف فوق عمامته؟ وتكفير الناس منكر، فهل تصدى له رجال ديننا بمقدار ما كفروا الناس هم أنفسهم؟ والفساد منكر، فهل حاربوه فعلا؟ وقتل الأبرياء منكر، فهل تصدوا له؟ والحرمان من الحقوق والحريات الأساسية منكر، فهل وقفوا إلى جانب المحرومين؟ والتعذيب منكر، فهل استنكروه؟ والاعتقالات العشوائية منكر، فهل نددوا بها؟ وانعدام المساواة منكر، فهل وقفوا ضده؟
ولقد رأينا في عهد الاستعمار بعض رجال دين وقفوا ضده، بينما صمت عنه آخرون أو حتى أيّدوه. ولكن هل ترى اليوم رجال دين يناهضون الاستعمار الحديث؟ أو سياسات الهيمنة والاحتكار والإفقار ضد دول وشعوب؟
ملفت تماما أن الشغل الشاغل الرئيسي لمعظم رجال الدين في العالم العربي والإسلامي، بوجه عام، هو مطالعة النص، والسعي إلى بناء نص فوقه، لتبيانه، أو لتفسيره، أو تعليقا عليه. المحور هو النص وليس حياة الناس. وليس كيف يتمثل هذا النص لجعل تلك الحياة أفضل من ناحية القضايا العامة التي تنهب الشؤون العامة نهبا، وتلهب المعاش اليومي لمئات الملايين من البشر.
أليس في هذه القضايا ما يستحق؟ ألا يبدو الانفصال عنها، انفصالا تاما عن الواقع؟ ألا يبدو ذلك طردا متعمدا للدين من حياة الناس؟ وهذا الطرد، ألا يجعله مجرد نص “مفارق” لا يرتبط بالقضايا الحيوية التي لا مفر من حاجتها إلى التقويم كلما انحرفت عن المسار القويم؟
النص القرآني معجز ومذهل. وكلما تمعنت فيه ازددت ذهولا. وكلما مضيت أبعد في مقارنة الدلالات المعاصرة لمعانيه، أدركت عظمته أكثر. ولكنه ليس نصا فقط. إنه نظام قيم أيضا. وهذا النظام هو ما تتم مفارقته عندما لا ينشغل الفقهاء والمفسرون بما يدور حولهم من قضايا اقتصادية واجتماعية وحياتية تمس حياة المليارات من البشر.
تقويم المسالك الفردية يبدو هو الشغل الشاغل، لا تقويم المسالك العامة. وهذا خلل جذري في توظيف الدين، أو حتى في قراءة النص نفسه. النص في كليته العامة يغيب لحساب التذنيب والتأنيب. وهذا ما يُفقده نصف قيمته الجوهرية على الأقل.
ألا يستطيع الوعظ الديني أن يلتفت إلى المعاني الكارثية لانحسار الجليد من القطب؟ هل يبدو هذا الخَطْب الجلل تافها في أنظارهم وهو يهدد بالخطر الحياة على كوكب الأرض؟ ألا يستطيع هذا الوعظ أن يُسهم في دفع الحكومات والمجتمع والأفراد، في أن يؤدوا قسطهم لمعالجة الخلل المناخي؟ بل وأن يقدموا لأنفسهم وللعالم مثالا يدل على أنهم فهموا إعجاز النص نفسه. إذ قال سبحانه “والسماءَ رفعها ووضع الميزان، ألا تطغوا في الميزان”. (وألا تطغوا، فعل أمر يخصنا نحن. هو وضع الميزان، وطالبنا بأن لا نفسد فيه) أفلا يبدو ثقبنا للأوزون طغيانا في الميزان؟ فلماذا لا يكون فعل الأمر هذا شأنا من شؤون الوعظ من أجل أن يحترم البشر الموازين الطبيعية؟ وألا يبذروا في الاستهلاك. وبينما يوجد بيننا ملايين الفقراء، فإننا نبذر ملايين الأطنان من الطعام. ولم أرَ رجل دين تشغله هذه الكارثة الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية.
أهو على وجه الحقيقة “انشغال” بالنص على حساب قضايا الحياة؟ أم أنه انشغال بتجارة النص؟
يستطيع المرء أن يفهم أن الانشغال بالقضايا العامة يدفع رجال الدين إلى الاحتكاك بقضايا السلطة، وهم حليف تقليدي لها، ويريدون أن يكونوا خادمها المطيع.
ولكن هذا غير صحيح من الجهتين معا. فليس كل القضايا تتطلب مواجهة مع السلطة، والخادم المطيع لا يخدم سيده عندما يتغاضى عن نصحه، بالاحترام واللين.
ثمة مسلمات اقتصادية واجتماعية لا تجد فيها مؤسسة السلطة سببا للمواجهة. إلا إذا كانت مؤسسة فساد عميم. وفي هذه الحال، فإن الصمت عليها جريمة بحق الإنسانية وبحق الدين. وهذا، على وجه الواقع، ما يرتكبه معظم أولئك الذين يضعون العمائم فوق رؤوسهم في بلد مثل العراق. عمائمهم ليست سوى غطاء للفساد، وهم فيه أول المفسدين. وجهنم تنتظرهم أجمعين. ولكن السلطة ليست على هذا السوء في كل مكان آخر. بمعنى أنها، في معظم الأرجاء، تصغي وتعالج وتهتم، حرصا على استقرارها نفسه. وبالمقدار نفسه، فإن المجتمع معنيّ بهذا الاستقرار ويجب أن يؤدي دوره فيه.
الفقر ليس مبعثا للاستقرار، ولا البطالة، ولا يخدم السلطة أن يتم دفنها تحت بساط الصمت. النقاش حول القدرات الاقتصادية لمعالجة الاختلالات يحسن أن يكون مفتوحا، وبينما يشارك رجال الدين فيه من المنظور الأخلاقي، فإن الخبراء والناس أجمعين يمكن أن يشاركوا فيه من المنظور العملي. على الأقل لكي يعرف كل فقير لماذا هو فقير؟ وما العمل الممكن لكي يخرج من دائرته، وما الذي يمكن للمجتمع والسلطة أن يعملاه للحد منه. وبدلا من أن يتفلسف علينا رجال الدين في ابن تيمية والزمخشري والقشندري والسفسطندري، فما الذي يمنعهم مِن أن يتفلسفوا علينا بالنظريات الاقتصادية؟ على الأقل لكي يفهموا كيف تبنى المجتمعات وإلى أين هي تسير؟ أليس هذا من واجبهم الديني؟ أم أنهم ينصبون، وعلى الناس يحتالون، وبتفسير الماء بالماء يختالون؟
الحليف الصادق للسلطة، يخدم، ولا يدفن الحقائق، ويفترض -نظريا على الأقل- ألا يخاف إلا من ربه.
ولكن للموقف الرجعي أسبابه الأخرى، غير الخوف، وغير التحالف مع سلطة الاستبداد، وغير الخنوع للذل، وغير التواطؤ مع الفساد أو تلبيسه العمامة.
إنه الانحراف التام عن طبيعة الوظيفة التي يؤديها الدين، على المستويين الإنساني والفردي على حد سواء.
الربط بين الدين والسياسة، كان من أول وجوه هذا الانحراف. قد يحتاج الأمر تبسيطا لكي نفهم الخلل. رجل الدين، طبيب قيم وأخلاقيات عامة. السياسي طبيب باطنية. الأول مرشد في المعايير الأخلاقية. والثاني معني بالمرض والعلاج، بالحقائق والأرقام، بالنسب والمعدلات، وبأشكال توظيف الموارد والإمكانيات. هذا تخصص وذاك تخصص آخر. الأول يضع الروحي فوق المادي. والآخر يضع المادي فوق الروحي. وهما لا يجتمعان بيد واحدة إلا ويفسد أحدهما الآخر.
عندما كان عالمنا بسيطا، فقد جاز للديني أن يمتزج مع السياسي ولو بحدود ضيقة. يوما ما، وعندما ورد إليه الكثير من أموال الخراج، وقف الخليفة عمر بن الخطاب على المنبر ليقول للناس، “لو شئتم كلتكم كيلا أو أعددته لكم عدا”. وانتهت القصة من ناحية توزيع ما طرأ على بيت المال. الحياة المعاصرة لم تعد تسمح بذلك. الدخل القومي، صار بحاجة إلى محاسب متخصص. والدولة صارت بحاجة إلى رأس مدبر يفهم في الأرقام والنسب ويدير شؤون العلاقات التجارية والدبلوماسية. وهذه قضايا ليست من تخصصات العمامة، ولا هي تُدرّس في كليات الفقه.
الانحراف الثاني، كان بتقديم الإصلاح الفردي على الإصلاح الاجتماعي. وهذه قضية حسمها القرآن نفسه بوضوح لا أشد منه. إلا أن القبول بالحسم لم يكن ليناسب سوق التجارة بالدين.
الانشغال بالإصلاح الفردي، كان من الطبيعي أن ينحرف إلى سفاسف من قبيل “إرضاع الكبير” و”تحريم الزلابية”، بينما العاطلون عن العمل يتضورون جوعا. وبقي الإصلاح الاجتماعي معلقا بين ممالأة الفساد في السلطة وبين التطرف ضدها وضد المجتمع.
الانحراف الآخر، هو النظرة التحريفية للنص المقدس. ولقد عالج العديد من كبار المفكرين العرب هذه المسألة من زوايا مختلفة. التأويل قاد الانحراف في مساقات أخذت النص بعيدا عن مجراه. ولئن نشأت عنه عدة مذاهب، وقاد إلى صراعات ومذابح، فإن ما انتهينا إليه من تطرف وإرهاب، كان في الواقع ثمرة من ثمار القراءات التحريفية تلك، كما كان نتيجة طبيعية لها. بينما ظل النص، مفهوما بذاته وبدلالاته، وواضحا لا لبس فيه، وأقل تعقيدا، من ناحية الوظيفة، مما يتطلب متفقهين أصلا، ظل الكثير منهم يلوون عنق النص، ويتعمدون التبرير للتحريف، لكي يحافظوا على تجارتهم وسوقهم.
الانفصال عن القضايا العامة، وعن ما يؤثر في حياة الناس، هو جزء من هذا الانحراف. وهو جذر الرجعية بين رجال الدين، وقد صار انحرافا متأصلا إلى درجة أنه يعمي البصيرة والأبصار عن العالم برمته. حتى لكأنهم في واد، والدنيا في واد آخر. ولا أفهم كيف يريدون للناس أن يؤمنوا. بينما هم الأحوج إلى أن يؤمنوا، وأن يصحوا، وأن يُبصروا، وأن يعيشوا مع الناس، وأن يكفوا عن الصغائر، ويلتفتوا إلى الكبائر، أو ليكفوا -على الأقل- عن أن يكونوا هم أنفسهم كبيرة من تلك الكبائر.
العقلانيون بينهم، وهم قلة، جديرون بالاحترام بما يحاولون تنوير الناس به في دينهم. ولكن هذا لا يكفي. إنه جهد ناقص وصدع، بل انحراف وخلل عندما لا يجد من يتصدى له. فإذا نظرت إلى رؤوس الرؤوس، ستجد أنه، بالأحرى، فضيحة.