عداء المغرب والجزائر: باق أم زائل؟
مع أن كثيرين يرون أن العالم بعد كورونا لن يكون هو العالم نفسه ما قبله، وأن لا شيء سيثبت ويبقى على حاله، إلا أن الامر يلتبس بعض الشيء كلما تعلق الأمر بالعلاقة بين المغرب والجزائر. فالدولتان المغاربيتان لا تتكتمان فقط عن طبيعة نواياهما، وربما طموحاتهما الإقليمية، بل تنكران جملة وتفصيلا أن يكون هناك في الأصل بغض أو عداء بينهما، وتكتفيان دائما، وكلما وضعتا أمام مثل ذلك السؤال، بأن تردا بأن تلك المزاعم هي محض إشاعات ومغالطات لا أساس لها أبدا من الصحة، وأن علاقتهما كانت ومازالت طبيعية جدا وودية للغاية، رغم ما عرفته في كثير من المناسبات من حالات مد وجزر ملحوظة، بل قد لا تتورعان أحيانا عن الإيحاء بأن الأمور بينهما «سمن على عسل»، في وقت تؤكد فيه الوقائع والأحداث، وبالدليل القاطع، العكس تماما.
وربما سيكون من المستحيل، أن نتوقع أو ننتظر من أي واحد منهما، حتى لو حمي الوطيس ودارت بينهما، لا سمح الله، معركة أكبر من المعارك الكلامية المعتادة، أن يتخلى عن ذلك الأسلوب، أو يمل ويكل من ترديد العبارات والألفاظ المعهودة من الجانبين. فهناك على ما يبدو شبه تفاهم ضمني بين الجارتين، على الحجب والإنكار الكامل، وربما إلى أجل غير معلوم لكل ما يراه الآخرون مظاهر جفاء وعداء، أو حتى برود واضح في علاقاتهما، بدون أن يوقفهما أو يمنعهما ذلك بالمقابل من أن يطلقا العنان بعدها لكل الأعمال والأفعال التي تخالف وتناقض في الصميم ما يعلنانه ويصرحان به أمام وسائل الإعلام.
ولعل هناك من قد يرى أن المسؤولين في البلدين يتقمصون شخصيات غير شخصياتهم الأصلية ويجدون مشقة في إقناع أنفسهم قبل غيرهم بها. ولكن لِم يقدمون على فعل ذلك؟ وما الذي يجبرهم أو يجعلهم رغم كل الخلافات والاختلافات يتفقون على تضليل شعوبهم، وخداعهم باللعب على طرفي حبلين اثنين أي الاخوّة والعداء معا؟ قد يكون السبب مبهما ومعقدا ومتعلقا برغبة كل واحد في أن لا يظهر أمام شعبه مبادرا بالعداوة والبغضاء والتصادم مع جاره وحريصا على أن يبدو مقدرا وحافظا للعشرة و»الماء والملح»، والروابط العرقية والتاريخية التي تجمعه بالآخر وقد يكون أيضا من قبيل الرضوخ والإقرار بتعقيدات المحيط الإقليمي والدولي، الذي يفرض على الطرفين معا أن يحافظا على شعرة معاوية، ويقبلا ببعض الاكراهات. غير أن ما يجري الآن في العالم ومنذ نحو شهرين قد يضع كل المعادلة القديمة أمام اختبار جدي، وقد يمنح الجانبين فرصة للخروج من تحت تلك المظلة، وخرق مثل ذلك الاتفاق الضمني، في حال وجوده بالطبع، وازالة الغشاوة المضلة، بشكل تام بمراجعة مواقفهما بشكل جذري، بما يجعلهما يقتنعان في الأخير، بأن الشمال الافريقي يمكن أن يسعهما معا، وأن أي رغبة قد تساورهما في السعي وراء نوع من الزعامة الإقليمية، إما من قبيل التفكير مثلا في جزائر كبرى، أو في مغرب أكبر، لم يعد لها في هذا الظرف من مبرر على الإطلاق. لقد كان واضحا أنهما قاما، ومنذ استقلالهما، بكل شيء لا لأجل أن يجتمعا ويلتقيا معا على كلمة سواء، بل بهدف أن يبتعدا عن بعضهما ويفترقا في السبل. وقد بحثا طوال تلك المدة عما يعمق من خلافاتهما، أكثر مما سعيا بالفعل وراء فضها وقلعها من جذورها، وكانا حريصين دائما، من خلال كل ما فعلاه على تلطيخ صورة الشقيق وشيطنتها في عيني شقيقه، وإبقاء جذوة الحقد والنقمة بينهما حية وملتهبة.
الأمر ليس ميئوسا منه فالوقت وحده قد يكون كافيا لعودة المياه إلى مجاريها بين المغرب والجزائر
ولكن إلى متى يمكن أن يستمر ذلك؟ إن كل التوهمات والتخيلات والسرديات، بل حتى كل المبادرات والتقارير الحقوقية الدولية، ظلت مباحة أمامهم لتأجيج حالة العداء المستمرة بينهما. ولعل آخر ضحاياهما كانوا سجناء الرأي في البلدين. فبدلا من أن ينفس فيروس كورونا عن كربتهم، بعض الشيء، ويدفع سلطات الدولتين، لأن تترك الخلافات والمماحكات السياسية جانبا، وتبعدها عن ملفهم وتنتبه من تلقاء نفسها، وبدون الحاجة لطلبات ومناشدات خارجية إلى صعوبة الظرف، وما يفرضه من تضامن إنساني، مع هؤلاء تحول الحديث عن مصيرهم إلى وسيلة جديدة للتراشق الإعلامي بينهما. والمؤسف فعلا أن ذلك حدث في عصر تكنولوجيا الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي وتقنية الجيل الخامس، بأدوات ووسائل وتقنيات الستينيات. ففيما أصدرت أمنستي أنترناشونال، الاسبوع الماضي، بيانين منفصلين، دعت فيهما المغرب والجزائر للإفراج الفوري، بدون قيد أو شرط عن جميع المسجونين، لمجرد الاحتجاج السلمي أو التعبير عن آرائهم، ارتأت وكالة المغرب العربي للأنباء المغربية، أن تنقل فقط أن المنظمة دعت الجزائر «إلى الإفراج فورا، وبدون شرط عن كريم طابو السياسي والوجه البارز في الحراك الجزائري، وكذا جميع معتقلي الرأي المسجونين». واختارت وكالة الأنباء الرسمية الجزائرية أن تقول، في إحدى قصاصاتها الاخبارية، إن المنظمة الحقوقية الدولية «طالبت السلطات المغربية بالإفراج بصورة عاجلة وبدون قيد أو شرط، عن جميع المسجونين لمجرد الاحتجاج السلمي، أو التعبير عن آرائهم، بما في ذلك العشرات من معتقلي حراك الريف، ومغنيي الراب، والمدونين والصحافيين، وسط مخاوف متزايدة من انتشار فيروس كوفيد 19 في السجون». وربما جلب ذلك سخرية البعض وانتقادهم لطريقة التعامل الرسمي في الجانبين، مع تقارير دولية يفترض أنها تعنيهما معا، وتشير لقصورهما بلا استثناء، وبدون أن يكون هناك فضل أو ميزة لأحدهما على الآخر، غير أن ذلك قد يكون دليلا إضافيا ايضا على حجم المأزق الذي تواجهه علاقتهما، ويثبت أن جائحة كونية، مثل كورونا، لم تفلح بعد ولو في التخفيف قليلا من حدة العداء بينهما، أو جعله يتوقف بشكل ظرفي ومؤقت. لكن أين يكمن لب المشكل؟ وهل أن حالة العداء الخفي تستعصي على الحل؟ إن فتح الباب لمثل ذلك التساؤل قد يكون بالنسبة لقسم من المغاربة والجزائريين بمثابة فتح باب جهنم، وإطلاق العنان لسجالات حادة وعقيمة لن تجدي نفعا لأحد، ولن تراكم سوى مزيد من تبادل الاتهامات، وربما حتى الشتائم بين الطرفين. فما جرى على حدودهما بعد خروج المستعمر الفرنسي، وما تم لاحقا، وعلى امتداد فصول النزاع الصحراوي المتواصل، يلقي بثقله على الاذهان والقلوب حتى الآن، ويمنع الوصول لتحقيق أي تقدم أو اختراق حقيقي في التطبيع بينهما. وربما سيتصور البعض أن العائق الفعلي لن يكون أحدا آخر غير الأنظمة، وأنه سيكون من المستحيل أن يتصالح أو يتفاهم عسكر الجزائر مع مخزن المغرب. ولكن من يضمن أن اي تغيير من هنا أو من هناك سيقلب الصفحة تماما ويفتح بدلا منها الصفحة المطلوبة؟ ومع أنه سيكون من الإجحاف أن يزعم أحد أن الأمر بات ميؤوسا منه، إلا أن الوقت وحده قد يكون كافيا لعودة المياه إلى مجاريها ولو بعد عمر طويل!