أموات مغاربة أوروبا والحرمان من رائحة الوطن

د. التجاني بولعوالي
بمجرد ما بدأت آلة كورونا تحصد أرواح عدد مهم من مغاربة أوروبا طفت على سطح الواقع قضية نقل جثامين المغاربة ودفنها في أرض الوطن. وقد استحالت هذه القضية إلى إشكالية عويصة أمام الإجراء الاحترازي والوقائي، الذي اتخذته الحكومة المغربية في مواجهة استفحال وباء كورونا. ويتعلق الأمر بإجراء غلق الحركة الجوية أولا مع إيطاليا يوم 10 مارس، ليشمل القرار بعد ذلك باقي الدول الأوروبية التي يستقر فيها ملاييين المغاربة.

هذا القرار الحكومي اتسم بالعشوائية والارتجالية واللاتخطيط، لأنه تم اتخاذه بشكل مفاجيء وغير مدروس، وهذا ما تؤكده جملة من المعطيات والملابسات التي كانت تقتضي تعاط عقلانيا وواقعيا واستشرافيا مع المسألة.
لم تأخذ الحكومة المغربية بعين الاعتبار مئات المغاربة العالقين في مختلف الدول الأوروبية، ومنهم الطلبة والباحثون والسياح والتجار والمرضى وغيرهم. يوجد الآن فقط في بروكسيل حوالي 500 من العالقين المغاربة، الذين يستقر أغلبهم لدى عائلاتهم أو أصدقائهم، وتم إسكان البعض الآخر بشكل مؤقت في الفنادق من قبل السفارة المغربية، وتتكفل بعض الجمعيات الخيرية بحاجياتهم من مأكل ومشرب وملبس وأدوية. وهناك من نفد ماله، ولم يعد يملك شيئا. هذا دون إغفال حالة العائلات في
المغرب، التي تعيش قلقا كبيرا على أبنائها وأقاربها العالقين في أوروبا.
كما أن عددا من المغاربة توفوا قبل أو أثناء بداية مرحلة تفشي أزمة كورونا، وقامت عائلاتهم بتسوية إجراءات النقل والدفن في المغرب، لكن قرار الحكومة المغربية المتسرع بعثر كل شيء، فأصبح الناس أمام حيرة عارمة، لأنهم لا يعرفون كيف يتعاملون مع هذا الإجراء الذي تجاوز القوانين المعتادة المعمولة بها. وهي أن الجثمان عندما يكون قد جهز من الناحية القانونية والتأمينية يفترض أن ينفذ ما تم التعاقد عليه، ومن ثم نقله ودفنه حيث ينص الاتفاق. لذلك، حاول بعض المغاربة نقل جثامين أقاربهم عبر دول أخرى كتركيا التي ظلت الرحلات الجوية مفتوحة معها، غير أن مصالح الصحة والدرك والمطار في المغرب رفضت استقبال تلك الجثامين. أما من الناحية الأخلاقية، فإن القرار الحكومي لم يأخذ في
الحسبان حرمة أموات مغاربة أوروبا من ناحية، ورغبة أولئك الأموات في أن يدفنوا في وطنهم من ناحية ثانية. وسوف تكون لهذا السلوك بلا شك تداعيات سلبية في المستقبل على نظرة الكثير من مغاربة الخارج إلى الوطن.
ويمكن نقد طبيعة تعاطي الحكومة المغربية مع إشكالية نقل ودفن جثامين مغاربة أوروبا في الوطن على مستويين:
على المستوى الأول كان يتحتم على الحكومة أن تستثني بعض الحالات في قرارها بتعليق حركة النقل مع أوروبا، كالمغاربة العالقين في مختلف الدول والمدن الأوروبية والجثامين المجهزة للنقل إلى المغرب قبل وأثناء بداية انتشار الوباء. كان من السهولة بمكان إرجاع المغاربة العالقين إلى الوطن، تماما كما صنعت مختلف الدول الأوروبية التي أعادت مواطينها العالقين، مثل بلجيكا التي تمكنت من إجلاء كل عالقيها من البلجيكيين الأصليين، في حين يظل البلجيكيون المغاربة إلى حد الآن عالقين في المغرب! بل لو أن الحكومة المغربية نسقت مع مثيلاتها الأوروبية، لتم بشكل متبادل إعادة الأوروبيين إلى بلدانهم والمغاربة إلى وطنهم على متن الطائرة نفسها.
وهذا ما ينطبق أيضا على الجثامين التي كانت مجهزة مسبقا، وكان ينبغي أن تنقل إلى المغرب بشكل استثنائي، ربما في الطائرات نفسها التي كانت سوف تنقل العالقين. لعل أسبوعا إضافيا واحدا وبشكل استثنائي كان يكفي لحل هذين المشكلين اللذين استحالا اليوم إلى إشكالية حقيقة لدى المغاربة في أوروبا، سواء العالقين منهم أو الذين لم يتمكنوا من نقل جثامين أقاربهم إلى الوطن، كما كان مقررا من الناحية القانوينة والتأمينية، وكما أوصى المتوفون الذي كانوا يرغبون في أن يدفنوا في مسقط رأسهم، وهذا ما يشكل في الحقيقة انتهاكا غير مقبول من الناحية الدينية والأخلاقية.
أما على المستوى الثاني، فظل هناك نوع من (الفراغ الفقهي) فيما يتعلق بإشكالية نقل الأموت ودفنهم في الوطن. وقد امتد هذا الفراغ طوال أسبوع من القرار الحكومي الذي صدر يوم 10 مارس، ولم يتبع ويوضح ببيان رسمي حول مستقبل هذه الإشكالية وحلولها إلا يوم 16 مارس من قبل المجلس العلمي للهيئة التنفيذية لمسلمي بلجيكا، ويوم 18 مارس من طرف المجلس الأوروبي للعلماء المغاربة. وبقي مغاربة أوروبا خلال هذه الفترة كلها حائرين لا يعرفون ماذا يفعلون؛ هل ينتظرون حتى تنقل الجثامين إلى المغرب أم يقومون بدفنها في البلدان التي يعيشون فيها دون الأخذ بوصايا الأموات من جهة وبحرمتهم من جهة ثانية لأنهم سوف يحرمون من الدفن الأبدي في الوطن الأصل؟
لو أن الحكومة المغربية تعاطت بشكل عقلاني وواقعي وتشاوري مع هذه المسألة من خلال استشراف تداعيات القرار وعواقبه المحتملة من ناحية، والتشاور مع الجهات المسؤولة أو الممثلة لمغاربة أوروبا من سفارات ومجالس ومؤسسات فاعلة من ناحية أخرى، لجنبت نفسها مثل هذا الإجراء الذي اتسم بالعشوائية والارتجالية والإجحاف. إن تنظيم رحلات جوية استثنائية لإرجاع المغاربة العالقين ونقل الجثث المجهزة كان من شأنه أن يحل هذه المعضلة بشكل جد طبيعي، بالضبط كما صنعت تركيا التي تركت أجواءها إلى حد الآن مفتوحة لنقل أمواتها. فضلا عن ذلك، كان من المفروض أن تصدر الحكومة المغربية منذ بداية اتخاذ القرار (10 مارس) بيانا خاصا بمستقبل نقل الجثامين ودفنها في الوطن في ظل أزمة كورونا، تتوجه فيه إلى مغاربة أوروبا والعالم بكل وضوح وشفافية، ويدعم هذا البيان بفتوى أو توضيح من المجلس الأوروبي للعلماء المغاربة.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: