سوق الشعودة تنجح بالجزائر تزامنا مع الحجر الصحي

الكتابة نشاط، لكنها أيضاً خمول. وفي هذه الفترة التي تتوالى فيها أيام الحجر الصحي، مع تباعد الناس عن بعضهم بعضاً، وتمسكهم بالعزلة، يصير الخمول طقساً، والكتابة نتاجاً له.
الخمول يحيلنا إلى الحلم، يمدنا بسبب أن نقلص من التشبث بالواقع وننزاح للحياة الافتراضية. في الخمول لا نلقي بالاً للوقت، تتشابه الساعات ومعها الأيام، نطمئن لضياع الصباحات، ونمني أنفسنا بأننا سوف نستردها بعد حين، عندما نستفيق من كسلنا، ويعود عيشنا إلى رتابته القديمة.
كل كاتب يجنح إلى الخمول كلما شعر برغبة في الكتابة، أو كلما فرغ منها، هي المزاج الذي يقلل من سطوة الراهن في رأسه، ويرفع حائطاً بينه وبين ضغط الحياة اليومية. قد تحد الكتابة من حرية الكاتب، من حركته، وتعزله في مكان معلوم، ويأتي الخمول كي يحرره من ضغطها ومن قساوتها أحياناً.
2
نشرت صحيفة «لاريبوبليكا» الإيطالية مقالاً، سرعان ما تُرجم إلى اللغات الأخرى بما فيها العربية، وتداولته مواقع كثيرة، وكذا حسابات على السوشيال ميديا. يقول صاحب المقال إن الناس يعجزون عن المطالعة أيام الحجر الصحي، وكلما فكروا في قراءة رواية شعروا بتناقض حياتنا السابقة مع الحياة تحت رحمة فيروس كورونا. استغربت أن يصدر المقال في صحيفة محسوبة على اليسار. كيف كان غرامشي يقرأ في سجنه؟ بل يكتب أيضاً. كيف كان أنطوان دو سانت إيكزوبيري يقرأ ويكتب ويقوم بعمله كطيار إبان الحرب العالمية الثانية؟ المقال الذي نشرته الصحيفة الإيطالية ولاقى إعجاباً عربياً يصلح للكسالى، لمن لا يقرؤون في وقت السلم، فما بالك أن يقرؤوا في زمن الأزمات. يخبرنا المقال نفسه أن مشاهدة الأفلام أيضاً قلّت، فكيف يفسرون زيادة التهافت على منصة نتفليكس؟
3
منذ بدء الحجر الصحي، وارتقاء الخوف في نفوس الناس، نشطت سوق موازية: سوق الشعوذة. وجدت فضائيات جزائرية مادة كي تشغل المشاهدين، وتنسيهم الهم الذي يحيون فيه. ظهر من يدعي أنه يملك عصا موسى، وآخر ينسب إلى نفسه ابتكارات صيدلانية، وهناك من سابق الجميع، وكان الأذكى بين المشعوذين من صرح بأنه صنع دواءً للوباء، بدون أن يجد وقتاً كي يطلق عليه اسماً، وبدون أن يعلمنا بما تحتويه خلطته، وابتدع بشطارة حججاً في عدم مقدرته على تجريبه. في الوقت عينه تطالعنا وزارة الصحة كل يوم بأرقام الإصابات والوفيات الجديدة.

الخوف يوحد الجزائريين هذه الأيام. الريبة والشك أيضاً. مقاطع فيديو مجتزأة عن خوف الناس تتكرر على مواقع التواصل الاجتماعي، صور أناس يتهافتون على كيس سميد، أو يصطفون أمام محطة بنزين.

المشعوذون الذين أفرزهم زمن الوباء، يختلفون عن آبائهم، يلبسون ربطات عنق ويتكلمون بفصاحة، وقد يتقنون لغة أجنبية واحدة أو أكثر، ولا يتعرقون حين تصوب إليهم الكاميرات. كلما مرّت الجزائر بأزمة، نبت من الخلاء مشعوذون، لكن هذه المرة الأولى صار المشعوذون أكثر شهرة من الأطباء ومـــن رجال الدين، والفضل في ذلك يعود إلى نشاط الفضائيات الجزائرية، التي أبانت عن لياقة حسنة في استدراج كل الباحثين عن الشهرة إلى استديوهاتها.
4
عكس ما ذهبت إليه صحيفة «لاريبوبليكا»، تشير أرقام من دول أوروبية عاث فيها كورونا فساداً، تزايد الطلب على الكتاب الإلكتروني، فعلى الرغم من الغلق الاضطراري للمكتبات، يستعين الناس بمنصات رقمية، ويواصلون شغفهم في القراءة. تساءلت: لماذا لا توجد سوق كتاب إلكتروني في الجزائر؟ كل العوامل اجتمعت كي لا يصل الجزائري إلى الكتاب: نظام بنكي مهترئ، يتعامل مع النقد والبقشيش، لا مع بطاقات بنكية، وسرعة الإنترنت في المراتب الدنيا مقارنة بدول الجوار. ولا سبيل للقارئ سوى الاتكال على مواقع القرصنة، وقد صار الجزائريون من زبائنها الأوفياء، بل منهم من لا يكتفي بالتحميل، بل يُطالب بحقه في قرصنة كتب بعينها. يشعر بأن القرصنة حقاً وليس تطاولاً على حقوق التأليف. في هذا الزمن الذي صار فيه اللمس مرادفاً مبطناً لانتقال العدوى سيندم النظام السياسي على تأخره في التعامل مع التقنيات الجديدة، سيندم أنه اكتفى بالبقشيش ولم يطور خدمته البنكية.
5
أغلقت المدارس والجامعات، وانقطع الأطفال والطلبة عن الدراسة، وقررت الحكومة تفادي سنة بيضاء بإطلاق دروس على الإنترنت، قصد إتمام الموسم، قبل أن تقع في الفخ الذي نصبته لنفسها، فالإنترنت ليست في أحسن أحوالها، وأحياناً ليست متاحة للجميع، والكثير من الطلبة ومن عائلات الأطفال لا يتوافرون على أجهزة (امتلاك «تابلت» يعد ترفاً) ما حتم عليها تخصيص ساعات بث على قنوات تلفزيونية. كان بالإمكان أن تلعب الإنترنت دوراً في تعزيز الديمقراطية في الجزائر، أن تحرر المواطن من الصوت الواحد ومن الصورة الواحدة ومن المذاق الواحد، لكن الحكومات المتعاقبة أرادت العكس، جعلت منها أداة في الهيمنة على الآراء وفي بسط ما ترغب فيه، لا ما يحتاج إليه المواطن. ونستشعر اليوم كم ضيعنا من سنوات، وكيف أننا تأخرنا في تعميم الديمقراطية أمام امتحان كورونا العسير. في الوقت عينه وبدل أن يطلق التلفزيون الرسمي قناة تربوية تنوب عن المدارس، فضّل أن يطلق قناة تسلية، ولحد الساعة لا يعلم الطلبة أي منقلب ينقلبون.
6
الخوف يوحد الجزائريين هذه الأيام. الريبة والشك أيضاً. مقاطع فيديو مجتزأة عن خوف الناس تتكرر على مواقع التواصل الاجتماعي، صور أناس يتهافتون على كيس سميد، أو يصطفون أمام محطة بنزين. في الحقيقة الناس ليسوا خائفين من اللحظة التي يعيشونها، بل يخافون من مستقبل لا أحد يستطيع أن يستشرف شيئاً منه، عدا مشعوذي الفضائيات، الذين زاد ضجيجهم ومن يتابعونهم لا يثقون فيهم. لقد أسرفت تلك الفضائيات في سقي الأوهام، وبما أن الأوهام لم تتحقق فقد تحولت إلى مخاوف. كلما شعر إنسان بخوف شعر بأن الزمن يتجاوزه، فيزيد إصراره على التمسك باللحظة التي يعيشها، وينجرف إلى التهويل، وإلى المسارعة إلى طوابير السميد والبنزين.
7
فرضت الحكومة حظراً شاملاً على البليدة (التي لا تبعد عن الجزائر العاصمة سوى ساعة بالسيارة). وحاصر الوباء المدينة. دائماً ما كانت البليدة في الواجهة، تحملت الآلام نيابة عن الآخرين. وقفت في الصف الأول سنوات حرب التحرير، وكانت بؤرة معارضة بعد الانقلاب العسكري 1965، قاومت لوحدها سنوات العشرية الحمراء، ونجاتها كانت تعني نجاة الجزائريين بأكملهم. كما فُرض حظر جزئي على المدن الآخر، وشعر الناس بأننا نحيا في جو من الحرب. الانتظار كمن ينتظر غودو عزز شعورهم بذلك. لكنها حرب ضد عدو غير مرئي. لا نعرف كيف نُدافع فيها عن ذواتنا ولا نعرف كي تتساقط علينا الضربات. إنها حرب يومية حتى إن تغافلنا عن تسميتها كذلك، يُرافقها خمول الكتاب، وبرامج تستضيف مشعوذين، وأطفال تاهوا مثلما تاه الطلبة، يبحثون عن سبيل لاستكمال موسمهم في بلد لا يؤمن بالميديا الجديدة، ويخاف من الإنترنت.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: