الدعاء والزنبيل وتسطيح العقول

“التضرّع إلى الله بالدعاء لا يشفي المرضى، وإنما يأتي الشفاء باجتهاد أولي العلم ولو كانوا ممن لا يؤمنون”.

وما هذه السطور إلا محاولة لاستدراج ما بعد هذا السطر الذي ورد في مقال لأديب مرموق وكاتب ثري هو سعد القرش، كان بعنوان “غزوة كورونا.. عودٌ إلى الله ونهاية مؤسسات الدين”.

العبارة غنية. وتبدو واقعية تماما. حتى أنك تستطيع أن تتلمسها لمس اليد، ولكن “الدعاء” قضية إشكالية، تتفاوت فيها الممارسة والمفاهيم، وتتقلب فيها الظنون، وتشغلني من بعض حين.

بالمعنى المادي، فإن الدعاء لا يشفي المرضى. وإنما يشفيهم أموكسيسيلين إذا أصيبوا بالتهاب في الجهاز التنفسي، تكون سببه بكتيريا من نوع انتروكوكاس وهيموفيليوس وغيرها.

الدعاء شيء، والخروج في تظاهرات تندد بالفايروس شيء آخر. الأول استرحام من رب قدير، والثاني سياسة بغطاء هزيل

ليس من وظيفة الدعاء أن يعمل كمضاد حيوي. والمضادات الحيوية جزء من منظومة “الأسباب” التي يتعين توفرها ليكون العلاج المادي ماديا.

الدعاء شيء غير مادي. بمعنى آخر، إنه شيء لا صلة له بالأسباب التي تستلزمها الماديات. ولكن، لا شيء أيضا، يبرر الإسهاب في الأثر اللامادي (النفسي) الذي يمكن أن يتركه الدعاء. فهذا معروف من الناحية العلمية. ويدركه اللامؤمنون من أهل العلم.

الدعاء كما نمارسه في الغالب، “طلب”. ولكن الأصل فيه ليس طلبا على وجه الحقيقة. الدعاء عبادة أولا، قبل أن يكون مطلبا. “ما كنتُ بدعائك ربي شقيا”، قال سيدنا زكريا. بمعنى أنه لم يتمرد على عبادة ربه. “فهبْ لي من لدنك وليا”. هكذا جاء الطلب. والعبادة سابقة ومخلصة وغير منقطعة، قبل أن يحل أوان الطلب.

عندما يدخل الدعاء في حقل العبادة، فإنه يصبح جزءا من عالم “الغيب” اللامادي واللامعلوم واللامفهوم. وتضطرب اللعبة لدى الربط بينه وبين الماديات. الاضطراب سببه أن المرء يسعى إلى أن يجمع شيئا من عالم غير مادي بآخر من العالم المادي. وكأنه يريد أن يقايض شيئا بشيء. وبذلك يكون الأمر تجارة لا عبادة.

والبعض يأخذ على الله أنه لا يستجيب لكل دعاء. وهذا غير صحيح. الله سبحانه يسمع الدعاء، ويستجيب له بالكلية والمطلق. بيد أنه لن يرسل لك “الزنبيل” بحبل ممدود. إنه “سميع مجيب”، وهو “يجيب دعوة الداعي إذا دعاه”. هذا يحصل بالقطع. إنما من حيث تجري الأمور في لا مادياتها. فإذا وجدت أن الدعاء لا يُستجاب، فدعاؤك هو المشكلة، لأنه قدم الطلب على العبادة، وليس العبادة على الطلب.

في حدود العبادة، فإن الاستجابة تأتي. أما في حدود الطلب، فإن “الزنبيل” لا يتدلى بالضرورة.

تحويل اللامادي إلى مادي، شيء من قدرة الخالق التي لا نزال لا نعرفها، على وجه العموم. لأننا منذ أن قيل لنا إن “المادة لا تفنى ولا تُخلق من العدم”، بقينا على هذه القناعة الساذجة، من دون أن يقال لنا: كيف وُجدت إذن؟

ولكن ما رأيك، بمن يقول إن هذه المادة، على شدة ماديتها، هي ذاتها مجرد وهم، أو مجرد ظل، ولو كان ملموسا، ولكن لحقيقة أخرى غير ملموسة. وأن الحقيقة اللامادية هي الأصل.

عندما يدخل الدعاء في حقل العبادة فإنه يصبح جزءا من عالم “الغيب” اللامادي واللامعلوم واللامفهوم

هناك حقل في العلم المعاصر يتعرف الآن على “المادة المضادة”. ألا يمكن لهذه المادة المضادة أو اللامادة أن تكون هي الأصل، وأن الملموس المادي الذي نعوم فيه هو مجرد هراء بالفعل؟

هناك من يقول أيضا إنه ما من مادة إلا ولها نظير غير مادي. أحدهما ظل للآخر. ويقول بعض أهل العلم إن “الإلكترون المضاد ذا الشحنة الموجبة، والبروتون المضاد ذا الشحنة السالبة يمكن أن يشكلا ذرة هيدروجين مضادة بنفس الطريقة التي يشكل بها الإلكترون ذو الشحنة السالبة والبروتون ذو الشحنة الموجبة ذرة هيدروجين عادية. كما إن خلط المادة مع المادة المضادة يؤدي إلى فناء كل منهما”.

ما أسعى إلى الوصول إليه بسيط. وهو القبول بازدواجية الوجود المادي واللامادي. وهذا على أي حال عمل من أعمال العلم وليس الإيمان. ليس مطلوبا أن تؤمن بالله، فهذه قضية أخرى، ولكن يكفي أن ترى ما “يرى” العلم أنه لا يراه. إنه يعني أن هناك “وجودا” هو نفسه بالضبط ذلك الذي نعتقد أنه “غير موجود”. هو كذلك، لمجرد أننا لا نراه ولا تتوفر لدينا المقاييس لمعرفته كما نعرف الماديات المألوفة.

الدعاء، كعبادة، ينتمي إلى ذلك العالم. وهو مسموع ومنظور ومستجاب، بمقدار ما يقدمه المرء كنوع من تضرع وتسليم، نتخاطب به مع “الوجود الآخر”.

الدعاء، عند هذه الحدود يكفي نفسه، ويحقق غايته. ولكن تحويل هذا التضرع إلى طلب، أو فائدة مادية ملموسة، يستوجب انقلابا في الحوادث. فيكون إما بمعجزة، كأن تطلب من الله مليون دولار، فتعثر على “شنطة”، وإما بمسلسل من الدوافع والإجراءات التي يتوفر لها التيسير. فتذهب لتفتح دكانا، وتخلص في تجارتك، فيتقاطر الناس، فتغنى. سببٌ يلحق سببا، حتى تعثر على المليون المنشود. هذا أمر فهمه فرعون نفسه، عندما طلب من هامان أن يبني له صرحا لكي يصل إلى الأسباب. بينما الأسباب كانت تحت قدميه، لا في قمة شاهقة.

ولله أسبابه في أن يعطيك أو لا يعطيك. ذلك شأن يخصه هو. ولا أدري كم من الحكمة أن تجادله فيه، أو أن تتخذه ذريعة لكي تتمرد على عبادته.

الدعاء لا يمنع من الطلب، طالما أنه عبادة أولا. وقبول العبادة شيء، وتوفير المطالب شيء آخر. سبحانه وتعالى ليس سوبرماركت لكي يتسوق الناس فيه مطالبهم، ولكن ليعبدوه.

الدعاء شيء غير مادي. بمعنى آخر، إنه شيء لا صلة له بالأسباب التي تستلزمها الماديات. ولكن، لا شيء أيضا، يبرر الإسهاب في الأثر اللامادي (النفسي) الذي يمكن أن يتركه الدعاء

والدعاء شيء، والخروج في تظاهرات تندد بالفايروس شيء آخر. الأول استرحام من رب قدير، والثاني سياسة بغطاء هزيل. ويحار أهل السياسة في الدين والدين في السياسة كيف يهتبلون الفرص لإصابة الدين والسياسة بفايروس تسطيح العقول.

يمكن أن ترفع يديك بالدعاء لكي تشفى من مرض. فيتيسر لك من نفسك ما يجعل الأموكسيسيلين يمضي بك في مسارات الشفاء. ويمكن لإرادته أن تجعلك تموت، ولكن دعاءك وصل وحقق غايته. عبادتك هي التي وصلت بالأحرى واستوفت ما تريد.

في حدوده اللامادية، فإن الدعاء ضراعة وثراء، نقصده لنفسه. أما في حدوده المادية، فلله الأمر وله التدبير. أما الذين ينتظرون “الزنبيل” من وراء دعائهم، أو كشرط له، فلا الدعاء وصل، ولا وصل الزنبيل.

وأما المادة، فإنها تفنى وتفنى ويُعاد خلقها من العدم.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: