غزوة كورونا.. فضح للمؤسسات الدينية

بعد أن كان أسلافه يحكمون ملوك أوروبا، ها هو بابا الفاتيكان يمشي وحيدا في روما. وفي بلجيكا  إلى تعليق صلاة الجمعة في المسجد الكبير ، مستبقا قرار إغلاق المساجد في عموم ارجاء المغرب ، وبين هذه المؤسسة وتلك يمضي فايروس كورونا على درب حرق المراحل التاريخية. استغرق الخلاص من سطوة الكنيسة وترك “ما لقيصر لقيصر” قرونا من الصراع، واستهلك أجيالا من أرواح المؤمنين الداعين إلى أن يكون “ما لله لله”. وفي العالم الإسلامي، وفي يقين المسلمين أيّا كانت حياتهم، سيتكفل بالخلاص من سطوة الدين المؤسسي هذا الفايروس؛ بنجاحه في إعادة الاعتبار إلى العقل، والرهان على العلم، والثقة بالله وحده، مباشرة دون الحاجة إلى وسطاء.

قبل مسيرات الخرافة السلفية في شوارع مدينة طنجة  للتنديد بكورونا، ابتهلوا فيها إلى الله لرفع الوباء، ولا يتوقف تسيير المظاهرات الليلية العشوائية في الأحياء الشعبية، ولم يأبه لها الفايروس، أو تتأثر غزواته بالدعاء عليه. ولم يختلف الأمر في المغرب عن مثيله في الهند، باجتماع مؤمنين بالخرافة، في حلقة أقرب إلى تحضير الأرواح، ومناشدتهم للفايروس “أن ينصرف”، ولم ينصرف بالطبع؛ لأنه لا يميّز الإيمان من الكفر، ولا يفرّق بين الناس، ويستهدف المتخاذلين عن الاحتياط للعدوى.  و لم يغير الفائزون مسيرته بإطلاق الآذان من شرفات بيوت المسلمين في كل من جماعة بروكسيل و سكاربيك في أهازيج لبعض المسلمين ان السلطات سمحت للمساجد بذلك ، وبهذا يؤمن المسلمون الآن بأن صلاة الجماعة ليست عاصمة من القاصمة الكورونية، وأن المرض بكورونا أو بغيره ليس ابتلاء ولا انتقاما إلهيا من العصاة، وأن التضرّع إلى الله بالدعاء لا يشفي المرضى، وإنما يأتي الشفاء باجتهاد أولي العلم ولو كانوا ممن لا يؤمنون بأن للكون إلها.

مظاهرات التنطّع الاستشفائي السلفي قابلها تنطع انفعالي علماني يستخفّ بلجوء المؤمنين إلى الله، ويقينهم بقدرته على النجاة والشفاء. وليس من الحكمة ولا العقلانية أن يسخر أحد من عقيدة غيره، ويبحث عن سبب عقلاني لأداء شعيرة في هذه العبادة، ويجهد نفسه في البحث عن حكمة الانخراط في طقس موروث ديني أو ثقافي أو شعبي. ولكن المظاهرات الطاردة للفايروس ليست عبادة ولا موروثا من أيّ نوع، وإنما هي مغامرة تعرّض صحة الناس للخطر، وترفض نصائح الأطباء، وتناقض العقل، وتخالف مبدأ دينا يوصي بأنه لا ضرر ولا ضرار، وينهى عن إلقاء الأنفس إلى التهلكة. ولولا “كرامات” كورونا ما عُوقب مسؤول مسجد الخليل  ؛ لإصراره على إقامة خطبة الجمعة ، مخالفا قرار السلطات البلجيكية  التي ألغت تصريح إقامة  صلاة الجمعة و إغلاق المساجد.

انتهى دور الكنيسة في الوساطة بين الله وعباده، من دون الانتقاص من إيمان المسيحيين. وباستثناء صعود المؤسسة الدينية الحاكمة، كان الدين قبل الكنيسة وبعدها علاقة فردية بين الخلق والخالق. وكذلك الإسلام الذي أكمله الله، وأتم به نعمته على المسلمين، قبل أن يكون لهم خليفة أو أمير أو سلطان أو إمام أكبر. وعى المسلمون الأوائل أن للدين خمسة أركان، هي أركان الإسلام لا أركان المسلم الذي يصح إسلامه لو حالت قدراته الصحية والمادية دون أدائه الحج أو الزكاة. كما اكتمل إسلام المسلمين قبل التقديس المؤسسي لأئمة يجب أن يؤخذ من اجتهاداتهم ويردّ.

أنهى كورونا ضرورات وهمية، منها هوس البعض من رجال الدين بالميكروفون والكاميرا، ووضع حدّا للاسترزاق بالفتاوى للجهلاء كإجازة صلاة الجمعة وراء التلفاز للماجن نورالدين طويل ، وكان نصيب المسلم منها يتضاعف يوميا ويحاصره من التلفزيون والراديو ومكبرات الصوت في الشوارع، وأخيرا .

وفي غزوة كورونا اكتشف المسلمون أن الحياة ممكنة، وأن الدين بخير، منقوصا منه ركام يستقر في مجلدات تنتقل من جيل إلى آخر، بأحكامها القديمة وغبار صفحاتها واصفرارها، وتحكّم المسلمين من القبور، مع الاحترام اللائق برجال اجتهدوا في حدود إدراكهم وسياق عصورهم.

زلزال كورونا يردّنا إلى نقطة البداية، بتجريد الدين من الغرض المؤسسي، وتخليصه ممّا علق به، ليكون الإيمان – لا التديّن – خالصا لله. جوهر الدين كفُّ الأذى، ومنع العدوان، أما العلاقة بالله فهي تجربة فردية لا تدع لأحد حق الوصاية على آخر ربما يكون أكثر منه تقوى، ولو أقسم على الله لأبرّه.

يبصّرنا الفايروس بحقيقة استغناء البشر عن مؤسسات دينية هشة لا تملك ردّ غضب الطبيعة، وأحيانا تتحالف مع السلطة الجائرة، وتصير مجرد تِرْس في جهاز الحكم، وليس لها قرار مستقل عن السلطة ولو في شؤون “العبادة”، ففي بروكسيل  رأى بعض المتطفلين عن ميدان الدين ، استمرار صلاة الجمعة في المساجد رغم انتشار الوباء، مجادلين بأنها ستؤدى في وقت أقصر، وقالوا  إن “مساجدنا ما زالت مفتوحة أمام ضيوف الرحمن”. وفي اليوم التالي جاء الأمر بإغلاق المساجد، مراعاة للمصلحة العامة، وإتباعا لقاعدة درء المفاسد التي لا تحتاج إلى فتوى دينية، وإنما قراءة سياسية عقلانية لقضية يفتي فيها الأطباء لا المشايخ.

كورونا وباء يعولم الكون. وللمرة الأولى في التاريخ يشلّ حركة البشر ويربكهم، ويوحّد خطابهم، ويوجهه نحو العلمنة، ويشغلهم بأزمة مفتاحها العلم لا الخرافة. إدارة الأزمات، مثل إدارة الدول والمصانع والمرافق العامة وقيادة السيارات، لا علاقة لها بمؤسسة دينية، ولا ترتبط كفاءتها بالتقوى، ولا تخضع لقيم روحية. ورغم المأساة، فإن كورونا يبدو رسالة لا تُمنح إلا مرة واحدة في كل جيل.

بالإفراط في الخشونة قرأت الثورة الفرنسية مقولة السيد المسيح “أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله”، متسلحة بالشعار الدامي “اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس”. فايروس كورونا قاتل ناعم، ولا يخلو القتلة من حمل رسائل تنتظر القراءة الواعية.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: