كورونا الذي يمتلك عزة نفس

يقال إن لفايروس كورونا عزة نفس، فهو لا يأتي لزيارتك في المنزل إلا بدعوة شخصية وإلحاح من جانبك. هذه المزحة تبدو معقولة إلى حد ما لتمرير فكرة العزل أو الحجر المنزلي الاختياري أو القسري، فهو الطريقة الوحيدة المتاحة للتعامل مع شراسة ضيف غير مرغوب فيه يحاول الدخول إلى حياتك عنوة، وإخافة أحبائك وأفراد أسرتك.

لكن فكرة العزلة قد تبدو مخيفة في حد ذاتها لمن لم يعتدها، العزلة بمعنى المكوث طويلا في مكان واحد بعيد في الغالب عن خط سير الطبيعة التي تضج بالحياة خارج مكان العزلة، الشمس والهواء، الضوء، صوت العصافير، حميمية التجوال في الشوارع والتبضع من الأسواق، لقاء الأصدقاء، زيارة المطاعم وفنجان قهوة في كافيه، كل هذا وغيره من متع الحياة اليومية البسيطة أصبح محظورا لملايين البشر حول العالم، البشر الذين وجدوا أنفسهم بين ليلة وضحاها مجرد مجسمات عضوية مفزوعة تحاول الاختباء في كهوفها المتحضرة، للتحايل على كائن مجهري لا يرى بالعين المجردة أصبح يهدد وجودها ويهدم بمعوله الدقيق أحلاما وآمالا، لسكان مدن بناطحات سحاب وأنظمة تقنية هائلة، من دون سبب مفهوم.

أما الرجال، فهم خط الدفاع الأول في مقاومة متاريس هذه الثقافة العالمية المؤقتة التي بدأت ترّوج لفوائد العزلة والتباعد الاجتماعي، الرجل باعتباره كائنا اجتماعيا فريدا من نوعه هو الضحية المفترضة لهذا التقليد العالمي الذي بدأت تفرضه بعض الحكومات بقوة القانون، فمن لا يلتزم ويقاوم قرارات حظر التجوال أو العزل الاختياري للمصابين أو لمن يشك في إصابته، فإن العقوبة تساوي مئات الدولارات أو الجنيهات فضلا عن الحبس.

في مقابل القوانين المجتمعية الصارمة، تبذل الزوجة هذه الأيام بشكل خاص جهودا مضنية لترويض شريكها الرجل وإقناعه بتقبل الأمر الواقع الذي لن يستمر إلى الأبد، فضلا عن واجباتها ومسؤولياتها التي أخذت تتفرع مثل خيوط العنكبوت للتأكد من نظافة المنزل وتعقيمه مع توفير حياة منزلية جاذبة لأفراد الأسرة سواء بإعداد الأطعمة المتنوعة أو محاولة سد ثغرات أوقات الفراغ الطويلة للتسرية عن الصغار والكبار.

كل هذه المسؤوليات تبدو مهام باهتة في مقابل منع رب الأسرة من اتخاذ قرارات عشوائية بين حين وآخر للتنصل من العزلة المنزلية، وتبدو في أغلبها محاولات يائسة كمن يحاول إقناع فرد يعاني من هشاشة نفسية بعدم تكرار محاولات الانتحار، لكن المحاولات للأسف تنجح في بعض الأوقات فيخرج الزوج أو الابن المحبوس من قفصه البيتي المؤقت إلى فضاء مشبع باحتمالات فايروسية خطيرة.

تناغما مع إجراءات أغلب سكان الكرة الأرضية هذه الأيام، بضرورة عزل أنفسهم طوعا أو قسرا للتحايل على سرعة تفشي وباء كورونا، تنبهت صديقتي منذ بداية سماعها لكلمة “عزلة”، وكانت تتقافز وهي تهاتفني من محجرها الاختياري قائلة “هذه أنا.. أنا من ينطبق عليه مصطلح العزلة الاختيارية ومنذ سنوات!”.

صديقتي ربة منزل، زوجة وأم منذ سنوات طويلة، لم يتسن لها الحصول على فرصة عمل باختيارها أو بغير ذلك، فواجبات الأمومة لم تترك لها فرصة واحدة للترويح عن نفسها ولو بوظيفة بربع ساعات عمل أسبوعية، كما أنها لم تتلق كلمة تشجيع واحدة من شريكها للبحث عن فرصة عمل تسمح لها بمغادرة المنزل بين وقت وآخر والانعتاق من حدود السجن الاختياري الذي فرض عليها رغم أنفها، حتى اعتادت عزلتها وباعدت بين أوقات خروجها من المنزل أياما طويلة وحتى أسابيع لتأتي فرصة خروج واحدة للتسوق أو لزيارة صالون التجميل أو الطبيب! كان هذا هو خط سيرها لسنوات، ولم تصدر عنها خلال هذه المدة الطويلة أي شكوى أو تذمر فالأمور تسير على أحسن ما يرام في المنزل والكل سعيد وراض.

يصعب على هذه السيدة التزام الصمت وهي تراقب تذمر زوجها على الواقع الجديد الذي يقيّد حركته، من دون أن تسأل نفسها “لماذا كل هذا التمرد؟ إنها أيام وستمضي، المنزل مليء بالكثير من الأعمال التي بحاجة إلى صيانة أغفلها صاحب الدار لانشغاله خارج المنزل، أليس هذا هو الوقت المناسب لإنجاز المتراكم من الأعمال؟”. فيجيبها الصوت الآخر “هذا الوقت غير مناسب لأي شيء على الإطلاق! الفايروس سيقتلنا جميعا..”، فترد عليه “لماذا تسمح له بالدخول إذا؟”

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: