الفن ملاذ البشرية إزاء الحجر القسري

من إيطاليا إلى فرنسا مرورا ببلجيكا وسويسرا وصولا إلى الولايات المتحدة، لم يستسلم الفنانون لوباء كورونا المستجد الذي شلّ نشاطهم، فقاوموه على طريقتهم، ليثبتوا أن الفنّ الذي خلّد مسيرته منذ غابر الأزمنة هو ما يكون به الإنسان إنسانا، حتى في أحلك الظروف.

أمام انتشار فايروس كورونا المستجد عبر أنحاء العالم، واضطرار الناس إلى حجر صحي ألزمهم بيوتهم، في انتظار التوصّل إلى ترياق يزيله أو لقاح يقيهم مخاطره، لجأ بعضهم إلى الموسيقى، يطلقونها من شرفات بيوتهم التي تحوّلت إلى ما يشبه المعتقلات، قبل أن يعلن الفنانون في أماكن كثيرة من العالم تمرّدهم عليه، بالطُرف والكاريكاتير والمواقف الهزلية المسجلة في الفيديوهات والأغاني الفكهة.

بدأ ذلك في إيطاليا، بلد يفالدي، وكوريلّي، وبوكّيريني، وسكارلاتّي، وفيردي، وبافاروتّي، وإنيو مورّيكوني، عندما انطلق الغناء من شرفة إحدى الشقق بمدينة ميلانو، أكثر المدن تضررا بالفايروس بعد يوهان الصينية. وما أسرع ما تنادت الأصوات حتى صارت عادة يومية، يتحدّى بها الميلانيون العزلة والوباء ويغالبون من خلالها خوفهم من عدوّ غامض. وبفضل الإنترنت، انتقل هذا الطقس المبتكر إلى مدن أوروبية أخرى كبروكسل وباريس وضواحيها.

ولكن الفن والغناء لم يكونا حكرا على مواطنين ضاقوا ذرعا بالحجر الصحي، بل تعدّياهم إلى الفرق المحترفة، ذلك أن فايروس كورونا ألهم الموسيقيين، فاستوحوا منه أغانيَ معظمها ساخرة. مثل فرقة الروك الإيطالية “ريمبامباند”، التي حولت الأغنية الشهيرة “ماي شارونا”  لفرقة الروك الأميركية “ذي كناك” (موهبة) إلى “ماي كورونا”.

والتي من كلماتها “إذا سعلت بين الناس صرت مجرما”، و”السوبرماركت كلها فارغة، لم تبق غير زجاجة بيرة كورونا”، و”أنا ضمن أربعين مع زوجتي” يقصد الحجر الصحي الذي يسمى أيضا بالأربعين (quaranta في الإيطالية، كعدد الأيام التي يعزل فيها المصابون بمرض معد، والذي اختلف في أصله المؤرخون).أو كورّادو نيتّو، أصيل باليرمو، الذي تصرّف في كلمات أغنية “ثغر وردة” لفابريسيو دي أندري، التي تتحدّث عن امرأة غريبة فتنت أهالي إحدى القرى، فغيّر المرأة بكورونا عاد بها أحد المسافرين من الصين. وبعد أن أدان “الأغبياء” الذين يتزاحمون على محطات القطار هربا من المدن، وهم لا يعلمون أنهم بذلك ينقلون الفايروس إلى القرى، يختم بقوله “لنبقَ متحدّين فأنا على يقين أننا سنبلغ المراد”.

كذلك فرقة برنامج “120 دقيقة” الذي تبثه محطة الإذاعة والتلفزيون السويسرية، التي نشرت على الإنترنت “باروديا” بعنوان “دون جمهور” حوّلت فيها أغنية الفرنسي جاك براسينس “عشاق المقاعد العامة” إلى نقد ساخر لقرار الحكومة السويسرية بغلق المسارح والمتاحف ودور العرض، فصارت عبارة “بان بوبليك” bancs publics “صان بوبليك” sans public ومضت الفرقة تعدّد الأماكن التي فقدت روادها، من متاحف وملاعب ومسارح وقاعات سينما وحتى دور العبادة.

ففي المقطع الأخير للأغنية/ الفيديو نشاهد قسّا في كنيسة خالية يردّد أن من الواجب أخذ بعض الاحتياطات، ولو أن رواد الكنيسة ما انفكوا يتناقصون يوما بعد يوم، ولكن “قد تتغيّر الأمور بأسرع ما نتصوّر، إذا لم يُعثَر على لقاح”. كان ذلك قبل صدور القرار الذي يُحجّر على المعزّين حضور الجنائز، ومواكب الدفن، لأن الفيديو أرسل يوم 27 فبراير، أي قبل أن تصبح إيطاليا كلها خاضعة لحجر صحّي شامل.

في فرنسا قام عدة فكاهيين بتحويل كلمات بعض الأغاني المشهورة إلى أغان تحث بطريقة فكهة على ضرورة لزوم البيت، كأنطوني جوبير الذي ألّف أغنية هزلية على أنغام “ماكارينا” البرازيلية، أو جان ميشيل ماتيي الذي قلّد خوليو إغليسياس في أغنية “لم أتغيّر”، بكلمات تقول  “أنشّف يديّ بمناديل، لأن الفايروس بلغ فرنسا، نرى بلوزات بيضاء كثيرة، ولكن لا أثر لأقنعة نشتريها”.

أما في بلجيكا، وبعد اتخاذ الحكومة قرارا بحجر صحي شامل، فقد سجل الفكاهي يان لمبيال أغنية بعنوان “الزم بيتك” استوحاها من أغنية للفرنسي الراحل كلود فرانسوا “هذا الربيع يغني”، ثم اعتمدتها الشرطة البلجيكية وسيلة لحثّ الناس على عدم الخروج إلاّ بإذن، حيث جعلت الدوريات تطوف في شوارع بروكسل وتبثّ الأغنية بواسطة مكبرات الصوت. وجاء في الأغنية الفكاهية “إذا أردنا أن يتوقّف هذا، فينبغي أن نحترم قواعد اللعبة، ونقول للمتعنّت: اغسل يديك، وابق في بيتك، حتى وإن أقبل الربيع يغني”.

الاستثناءات موجودة طبعا، فبعض الفنانين تناول الأزمة بشكل جدّي كالفرنسي من أصول إيطالية كالوجيرو، الذي نشر على يوتيوب أغنية جديدة من تأليفه وتلحينه بعنوان “نتظاهر وكأن..”، وهي أغنية تتحدّث عن هذه المرحلة العصيبة التي يواجهها مئات الملايين من البشر في العالم، وأسئلة الأطفال المضطّرين هم أيضا إلى مقاطعة الدروس، ولاسيما الوحدة التي يعيشها كبار السّن والمهمشون.

في مقدّمة مجموعة من أفضل النكت حول فايروس الكورونا، تساءلت مجلة “فالتشر” الأميركية هل يمكن أن نسخر من جائحة عالمية قلبت حياتنا بعمق وعطّلت كل الأنشطة ومفهومنا للتواصل الإنساني نفسه؟ نعم، ذلك ممكن، فالغاية ليست استنقاصا من أهمية الأزمة، بل المساعدة على تجاوز هذه المرحلة الحرجة، المشحونة بالقلق والخوف.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: