مناعة القطيع وممانعته في مواجهة كورونا

عندما أعلن رئيس وزراء بريطانيا بوريس جونسون عن خطة مناعة القطيع لمواجهة وباء كورونا انهالت عليه الانتقادات من الداخل والخارج. وتسابقت الأقلام لوصفه بكل ما عرفته القواميس من مفردات حول اللامبالاة والاستهتار والانتهازية ومحاباة أرباب المال على حساب الفقراء. تراجع جونسون عن خطته بضع خطوات، وفسح المجال أمام سياسات العزل لمحاصرة الوباء. ولكنه اصطدم برفض البريطانيين البقاء في المنازل حتى ولو أصيبوا بفايروس كورونا.

تحوّلت مشكلة جونسون إلى ممانعة القطيع للعزلة الصحية. فالبريطانيون تجاهلوا نصائح الحكومة بعدم الخروج من منازلهم إلا للضرورة. وعندما أغلقت الجامعات والمدارس ومؤسسات القطاع العام توجه الناس إلى المطاعم والبارات وكأنها أيام عطل رسمية. حتى عندما هدّدت الحكومة بتغريم ومعاقبة المخالفين لتعليمات العزل، لم يكترث السكان وواصلوا الخروج إما بذريعة ممارسة الرياضة اليومية أو الذهاب للعمل الذي “لا ينجز عن بعد أبدا”.

ممانعة القطيع للعزلة سعيا وراء محاصرة كورونا مشكلة واجهت كثيرا من الدول حول العالم، ليس فقط في بريطانيا وليس فقط في أوروبا. هناك دول لم تجد بدا من استخدام القوة لفرض العزلة على شعوبها. ودول أخرى تستعطف حكوماتها الناس ليل نهار للبقاء في منازلهم، وقد استدعت لهذا الغرض جميع الشخصيات المشهورة في جميع مجالات الحياة، من أجل أن تظهر في إعلانات متلفزة أو مصورة أو مذاعة، وتشجع القطيع على تنفيذ العزلة الصحية.

ولما كان عدم التزام الأوروبيين والأميركيين بالعزل هو الأكثر وضوحا بين الشعوب، خرج من يقول إن الأنظمة الديمقراطية في العالم فشلت فشلا ذريعا في التعامل مع وباء كورونا، والدليل القاطع بالنسبة لهؤلاء هي الصين، صاحبة النظام الشمولي الذي أغلق مدنا يعيش بها عشرات الملايين من البشر، وتمكن من محاصرة المرض وتحجيمه في البلاد خلال شهرين فقط.

النموذج الصيني في التعامل مع وباء كورونا بات يحتذى في كل مكان الآن. ومع ازدياد عدد الدول التي تتبناه، تتسع رقعة التبشير بالأنظمة الشمولية قاهرة الأوبئة ومذِلّة الكوارث. أما الدول ذات الحكومات والبرلمانات المنتخبة فهي هشة ولا تستطيع فرض حظر التجول على شعوبها. وبالتالي لا أمل لها في تجاوز كارثة كورونا وسينتهي بها الحال إلى عصور ظلمات جديدة لا يعرف أحد متى تنتهي. وكأن سجن الناس في منازلهم أصبح معيار قوة الدول ومناعتها.

في الحقيقة يتعلق الأمر بعدة أمور أساسية. الأول هو أن الأجيال الجديدة من الأوروبيين، أي مواليد مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، لم يعيشوا كوارث وأزمات واضطرابات أجبرتهم على تغيير أنماط حياتهم وتقييد الحريات التي يتمتعون بها. وفي ظل حالة من اللامبالاة في تعامل الحكومات مع الوباء في بداية انتشاره، كان من الصعب قلب حياة الأوروبيين والأميركيين رأسا على عقب خلال أسبوعين أو ثلاثة، وخاصة أن القرارات الكبرى في الولايات المتحدة ودول القارة العجوز تحتاج لأكثر من جرة قلم يمسك به الحاكم الفرد للبلاد.

الأمر الثاني هو أن قرارات عزل أو حظر التجول في دول العالم الأول، إن جاز التعبير، تحتاج الحكومات فيها إلى مراعاة كافة جوانب حياة السكان، ووضع الخطط للتعامل مع الآثار الجانبية التي يمكن أن تفرزها. فعندما تطلب من الناس البقاء في منازلهم يجب أن تؤمن لهم ما يلزم من دخل وغذاء وماء ودواء للعيش دون تواصل مع العالم الخارجي. كذلك يجب أن تأخذ بعين الاعتبار الأمراض والمشاكل النفسية والاجتماعية التي ربما تنشأ جراء البقاء في المعتقلات المنزلية حتى ولو كان بقاؤهم تم بصورة طوعية، أو خشية على صحتهم.

الاقتصاد أيضا من الأمور التي تكبل الدول الغربية في قرارات العزل وحظر التجول داخل المدن وبخاصة العواصم مثل لندن وبرلين وباريس ونيويورك وواشنطن. فاقتصاديات تلك الدول لا تقوم على القطاع العام إلا في الحدود الدنيا، وهي تعتمد كثيراً على القطاع الخاص الذي تخشى مؤسساته الخسارة، ويرفض عماله الجلوس في المنزل خوفاً من فقدان وظائفهم ودخلهم. وبالتالي لا بد من تعويض كل متضرر من العزلة، مهما كان الضرر وأياً كان مقداره.

في الدول الغربية لا يكفي أن تقول للمتضررين من عزلة كورونا اجتماعيا أو اقتصاديا “عوضكم على الله”، ولا ينفع أن تعتقل من يخالفون تعليمات حظر التجول دون أن تأخذ موافقة البرلمان على خطة طوارئ كاملة الأركان. كذلك لا يجوز أن تتنازل عن المعايير الأساسية في المستشفيات والمراكز الصحية لتتحول إلى مسالخ بشرية. وبالتالي لا تقبل ذرائع من قبيل أن البلاد تواجه ظرفاً استثنائياً، ولا يضر المريض إن كان يفترش الأرض أو يتمدد على سرير طبي.

ثمة أمر أخر لا تريد الدول الغربية أن تتجاهله وهو أن العزلة ومنع التجول هما من أدوات الدفاع في الحرب على كورونا، ولن يكونا كافيين للتغلب على الوباء في المدَيين المتوسط والطويل. وبالتالي بالتزامن مع محاولتك للحد من انتشار الوباء لا بد لك أن تبحث عن علاج له. وكذلك لا يضيرك أن تجاهر برغبتك في اكتساب جزء من الناس لمناعة ذاتية تحميهم وتحمي عائلاتهم وأصدقاءهم وزملاءهم من الإصابة بالوباء في المستقبل، خاصة وأن غالبية المصابين بهذا المرض يتعافون منه إن لم يكن لديهم مشكلات سابقة في جهازي التنفس والمناعة.

الأنظمة الديمقراطية تأخذ كل ما سلف بعين الاعتبار قبل أن تقرر الحجر على الناس في منازلهم. أما في الدول الشمولية فالوقاية خير من قنطار علاج، وما يمكن أن ينتج عن عزلة كورونا لا يذكر مقابل النجاح في محاصرة الوباء. للتجربتين ما لهما وما عليهما، وإن كانت كارثة مثل الوباء الجديد قد سمحت بالمقارنة بين الأنظمة الديمقراطية والشمولية، فذلك لا يعني في أي حال من الأحوال مراجعة الذات والتفكير بالتخلي عن الحقوق والحريات الإنسانية خوفا من الأزمات والكوارث.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: