كورونا يكشف عورات العقول وخطاب الشماتة الإسلامي
انتشار فايروس كورونا في العالم، وفي كل أقطار العالم العربي والإسلامي، لم يختبر فقط سلامة الإجراءات الصحية والطبية، بل عرّى أيضا بنية فكرية كامنة، تعتبر الوباء عقابا إلهيا للأعداء، وتتصور أن المرض “جند من جنود الله” أرسل لكي يغطي وجوه النساء ويمنع الاختلاط وارتكاب الفواحش. بنية فكرية دينية مستترة تستحضر الشماتة في الآخر، وتستسهل تحقق الشفاء بمجرد الانطلاق في الدعاء والابتهال.
لبضعة عقود، ظل الجينز الأزرق عنوانا للعولمة، عابرا الحدود والطبقات، ولكنه واجه تحديّا ثقافيا حال دون انتشاره في مجتمعات تفرض على شعوبها الزي الوطني في المؤسسات التعليمية وأماكن العمل. وفي تسعينات القرن العشرين ابتذل مصطلح العولمة، وتداوله باحثون عرب في كتب وندوات ومؤتمرات وحلقات بحثية وبرامج تلفزيونية، وأرجعه البعض إلى الرئيس الأميركي هاري ترومان بقوله، بعد إلقاء قواته قنبلتين نوويتين فوق مدينتيْ هيروشيما وناغازاكي عام 1945 “العالم الآن أصبح في متناول أيدينا”.
وفي عام 2020 يتوحّد العالم بالرعب من فايروس كورونا، توحَّد بتكتل شمل إجراءات الوقاية ورصد ميزانيات ضخمة للتوصل إلى اللقاح، وبما يشبه مرض التوحّد؛ فلزم الفرد بيته والشعب حدود بلاده، وألغيت مسابقات رياضية واحتفالات ومعارض ومهرجانات، وأغلقت مطارات وجامعات ومدارس ومسارح ومتاحف ومطاعم، وتعطّلت مشاريع استثمارية، ومُنعت تجمعات منها ندوات علمية للتوعية بخطر الفايروس وسبل مواجهته.
هكذا يعولمنا الفايروس الغامض، ويثبت للمرة الأولى في التاريخ هشاشة الإنسان وعجزه في مواجهة الموت، ويعيد الاعتبار إلى مقولة مارشال ماكلوهن “العالم قرية صغيرة”، ولا أظن أنه توجد أسرة لم يتداول أفرادها اسم الوباء، وينسبون إليه أزمات أخرى نتيجة بقاء الرجال والتلاميذ في البيوت، ويتلقون نصائح شفاهية ورسمية ووعظية، يتطوع بها متخصصون ودجالون وأغنياء أوبئة، عن تفادي الإصابة.
وفي استعادة الحالة البدائية للنفس البشرية يحضر الدين ويستدعي رفع البلاء بالصلاة، والبعض من المسلمين استسهلوا الاستئثار بالله، فسارعوا إلى الشماتة بمن ظنوهم أعداءه، واستعلوا بالإيمان الذي لا يعصم المؤمنين من الفايروس.
في استعادة الحالة البدائية يستدعي رفع البلاء بالصلاة، والبعض من المسلمين سارعوا إلى الشماتة بمن ظنوهم أعداءه
يوم الأحد الـ15 من مارس 2020 أعلنه الرئيس الأميركي دونالد ترامب “يوما وطنيا للصلاة. نحن بلد، على مرّ تاريخنا، نتوجه إلى الله من أجل الحماية والقوة في أوقات كهذه.. بغض النظر عن مكان وجودكم، فإنني أشجعكم على التوجه إلى الصلاة كفعل إيماني. معا سننتصر بسهولة”. ترامب مثل جورج بوش الذي أعلن أن الغزو الأميركي للعراق حرب صليبية جديدة، كلاهما يتّسق مع روح الدستور الأميركي الذي قدم له جاك دريدا قراءة لحضور الميتافيزيقا في نص الدستور وتطبيقاته، إذ احتكم موقّعو هذه الوثيقة إلى “الله”، وأشهدوه على حسن مقاصدهم. وانتقل الاستناد إلى القوة المطلقة من الدستور إلى الدولار، فاحتمى بشعار “بالله نثق”.
العقل الأميركي ممثلا برئيس البلاد لجأ إلى الله، ولكنّ جموعا تمثل قطاعا من العقل العربي الإسلامي مالت إلى تشييء الله وتجسيده، على نحو أسطوري أوردت التوراة بعضا منه، بمصارعة الله للبشر وفوزهم عليه أحيانا. وفي غياب الله ترتكب موبقات أبسطها إنكار صيادلة أن لديهم مطهرات كحولية وكمامات؛ انتظارا لرفع أسعارها.
ومن النهم المادي إلى الاستثمار السياسي للوباء نشطت حشود، في وسائل التواصل الاجتماعي، لتكريس وسم “جند من جنود الله”، والادعاء بأن كورونا عقاب إلهي للصين؛ لسوء معاملة سلطاتها لمسلمي الإيغور في إقليم شينجيانغ. ثم أغرت التعبئة الدينية آخرين فبالغوا في الغيرة على الله، مؤكدين أن كورونا من جنوده، “وما يعلم جنود ربك إلا هو”، وأنه مبعوث لكي “يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر”، فيغطّي وجوه النساء، ويمنع الاختلاط وارتكاب الفواحش. ومن ثنائية الإسلام والكفر إلى المنحى الطائفي، قال البعض إن الوباء منع الإيرانيين من زيارة الأضرحة والطواف حولها.
خطاب الشماتة الإسلامي امتداد لزعم الوعاظ السذّج، في خطب الجمعة عام 2011، أن كارثة المدّ الزلزالي “تسونامي”، الذي ابتلع نحو 20 ألف ياباني في مارس 2011، إنما هو عقاب من الله للكافرين. في ذلك الوقت رأيت واعظا شابا تنفر عروق رقبته فوق المنبر، يستأسد في ميكرفون صنع في اليابان، صارخا بيقين المؤمن أن تسونامي “مجرد جند من جنود الله ضد قوم كافرين”.
فإذا كان الفايروس جندا من جنود الله فهل يكون تجنّبه أو مقاومته اعتراضا على إرادة الله؟
في كتابه “تخليص الإبريز في تلخيص باريز” سجل رفاعة الطهطاوي رحلته إلى باريس عام 1826، إذ احتُجز الوافدون خارج مرسيليا، في “الكرنتينة” وهو الحجر الصحي، وقد اعتادوا “أن من أتى من البلاد العربية لا بدّ أن يُكرتن قبل أن يدخل المدينة”. وذكر الشيخ الطهطاوي جدلا بين علماء المغرب حول “الكرنتينة”، فالشيخ محمد المنّاعي التونسي المالكي المدرّس بجامع الزيتونة رأى تحريم الكرنتينة، ولكن الشيخ عبدالله محمد البيرم مفتي الحنفية بالزيتونة قال “بإباحتها، بل وبوجوبها، وألّف في ذلك رسالة، واستدل على ذلك من الكتاب والسنة، وأقام الأول الأدلة على التحريم، وألف رسالة في ذلك، على اعتماده فيها في الاستدلال على أن الكرنتينة من جملة الفرار من القضاء. ووقعت بينهما محاورة أيضا نظير هذه، في كروية الأرض وبسطها، كالبسط للمنّاعي، والكروية لخصمه”، ومكث الطهطاوي ومن معه في الكرنتينة ثمانية عشر يوما.
الواقعة التي سجلها الطهطاوي استشهد بها أبوالعباس شهاب الدين أحمد بن خالد بن حماد الناصري الدّرعي السّلاوي في الجزء الثاني من كتابه “الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى”، بمناسبة سفره من مدينة سلا إلى مراكش للقاء سلطانها، وكانت السنة سنة وباء، وجرت المذاكرة بينه وبين العلماء “فيما يستعمله النصارى من أمر الكرنتينة”، واستحضر ما ذكره الطهطاوي في “تخليص الإبريز…”.
وقال السّلاوي إن الكرنتينة “تشتمل على مصلحة وعلى مفسدة”، والمصلحة هي سلامة أهل البلد، والمفسدة الدنيوية هي الإضرار بالتجار والمسافرين بحبسهم، “وأما الدينية فهي تشويش عقائد عوام المؤمنين والقدح في توكلهم.. فتعين القول بحرمتها”.
واتفق معه العلامة الأستاذ أبومحمد عبدالله بن الهاشمي بن خضراء السّلاوي قاضي حضرة مراكش الذي كتب إليه “وأما حكم الكرنتينة فهو ما ذكرتم من الحظر وبه أقول لما فيه من الفرار من القضاء مع المفاسد العظيمة.. ولا يخالف في هذا الحكم إلا مكابر متبع للهوى فماذا بعد الحق إلا الضلال”.
أتفهّم كلام السّلاوي في ضوء حدود إدراكه وسياق عصره، تقريبا عام 1879. ولكن تكرار هذا الكلام، مع إضافة حمولات شامتة بمصابي كورونا، يصدر عن عقول مشوّهة تجهل أن الله أكرم وأسمى من التدخل في تفاصيل الحياة لصالح فئة ضد أخرى، وأن الأوبئة لا تبالي بدين أو مذهب، ولا تفرّق بين المسلم وغير المسلم، ولا يعنيها الإيمان والكفر، ولا تنتقي العصاة وتعفي التقاة، ولا تهزمها إلا قوة المناعة وسلامة أساليب الوقاية والعلاج. ولم يفرّق كورونا بين بوذي ومسيحي ومسلم، كما يصيب السرطان أطفالا مسلمين لم يجرّبوا العصيان وليس لله حاجة في ابتلائهم.
كارهو البشر، من رافعي شعار “غزوة كورونا المباركة”، لم يتفكّروا كيف يمنع “جند من جنود الله” زيارة البيت الحرام؟ وفاتهم أن في مصر ضحية لذيذة للفايروس، وهي شوكولاتة “كورونا” التي بدأ إنتاجها عام 1919. وفي عامها الأول من مئويتها الثانية سيكون عليها البحث عن اسم جديد.