لنبقى متباعدين اليوم ، من أجل أن نتعانق غدا ..!

الرعب يتناثر في أرجاء العالم، الجميع يهرع للتعقيم، لم يعد “كورونا” يمثّل مجرد فايروس عادي يشبه إنفلونزا الطيور أو الخنازير أو يشبه غيره من الفايروسات المتحورة بل أعلنت منظمة الصحة العالمية أنه وباء فتّاك، لم تعد هناك دولة على وجه الكوكب في مأمن منه.

الوضع يتطوّر بشكل سريع للغاية والإصابات في تزايد مستمر، هذا الأمر الذي استدعى اعتراف المدير العام لمنظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم غيبريسوس، على الإقرار بأن الأمر أصبح مثيرا للقلق بعد تخطي الإصابات حاجز مئة ألف حالة عالميا.

الجهات الحكومية والمؤسسات على مستوى العالم تمارس فعل التعقيم باحترافية عالية لتجنّب مواطنيها سرعة انتشاره، بل إن بعض الدول تعقّم الشوارع أيضا، واتخذ الجميع التدابير الاحترازية من إلغاء البصمة الإلكترونية للموظفين أو تعليق الفعاليات التي تستدعي التجمعات البشرية.

المهم أن الكل على أهبة الاستعداد لأي تصرف واتخاذ أي إجراء من شأنه الوقاية، إلا عربة السيدات في مترو أنفاق القاهرة، بل وجميع عربات المترو، فبرغم التسجيل الصوتي الذي يعلن على مدار الثانية أن المسافة الآمنة بين كل شخص وآخر ينبغي ألا تقل عن متر، نجد أن الكتل البشرية تتلاصق فيما يشكل لوحة سيريالية من العصور الوسطى، تلاحم ينبئ بكوارث حتى وإن لم يكن هناك وباء، ناهيك عن هذا الخطر المحدق بنا.

أما عربة السيدات فوحدها “يا مؤمن” تنقل أمراض العالم، وقد تأتي بفايروسات جديدة مخلوقة من عادة تداول زجاجات المياه والشرب من نفس الفوهة، يا الله!

كنت في العربة، فإذا بي أسمع صوت زغرودة مدوية، فتاة تبيع أدوات تجميل، فتعلن عن بضاعتها بطريقة مبتكرة لجذب الزبائن، ثم تجرب ما معها من أدوات تجميلية على وجوه الفتيات ومن وجه لوجه، تمارس ما يشبه عمل صالونات التجميل فتقترب من الفتيات حد الالتصاق الجسدي!

لن أعلّق على هذا التصرف، فجأة نادت بصوت عالٍ حد الصراخ “عطشانة”، ألا توجد زجاجة مياه؟ فبرزت يد إحدى الفتيات اللاتي استفدن بتجربة تجميل مجانية وناولتها زجاجتها الشخصية، شربت من الزجاجة مباشرة!

وهنا أيضاً لا تعليق، رغم أن لساني لم يعد يقوى المسكين على الصمت لكنني زجرته، وذكرته بما يحدث في مثل هذه الأحوال من مناوشات، شغلته بقراءة بعض الآيات القرآنية لتجنّب أن يخونني وتفلت منه كلمة توعوية حمقاء.

لكن زجاجة المياه تحولت إلى حفلة شرب جماعي صاخبة، جميع الفتيات تذكرن أنهن عطشانات، وأن من محاذير الأطباء ونصائح تجنّب الإصابات إبقاء الحلق مبللا والابتعاد عن جفافه، فتبادلن ذات الزجاجة وأجهزن على ما بها من مياه معدنية معقمة، لكنهن شربن من نفس الفوهة!

صاح رغما عني فطالبته بالصمت زجراً ومرغما انصاع هذا اللسان المسكين، فكيف يصمت على تصرفات تمنح إصابات مجانية بأمراض وميكروبات عديدة.

لكن البائعة الحسناء التي تجمل الفتيات لم تكتف بالشرب وتداول الزجاجة، بل استلت منديل ورقي مبلل من علبتها لإزالة أثر أحمر الشفاه لتثبت للجميع مدى قوته وثباته وعدم تأثره بعوامل الجو إلا إذا أزالته بنفسها بمنديل كهذا، بل استخدمت نفس المنديل على أكثر من شفة!

مازلت أمارس أقصى درجات الثبات الانفعالي وضبط النفس، ولم أعلّق على كل تلك التصرفات الحمقاء، لكن نفس الفتاة بعد أن أسالت لعاب الفتيات على بضائعها، وباعت منها الكثير، قبلتهن جميعا قبل مغادرة العربة!

وعلى باب العربة حين انفتح في محطة رئيسية رأت زميلتها بائعة العطور، فكان من نصيبها حضن طويل عميق، وعدّة قبلات!

وحفلات تقبيل جماعية لطالبات جامعيات يلتقين فجأة في العربة، أحداهن كانت “بتبوس” بضمير، قبّلت الجميع، لم يسلم منها سوى السائق.

فكرت في الاستفادة من رصيد إجازاتي والاكتفاء بإرسال تحقيقاتي الصحافية عبر الإيميل والمناقشة حولها إلكترونيّا، حتى الحوارات الصحافية “ذلك الفن الذي أعشقه” صمت عنها مؤقتاً وأصبحت أقلل قدر إمكاني من الاختلاط مع العنصر البشري.

ولكنني مضطرة، قررت الذهاب لمرة واحدة وأنا أرتدي الكمامة فوق فمي وأنفي ويتولى غطاء الرأس إخفاء ما بقي من وجهي وشعري فلا يظهر مني غير عيناي، والمضحك أنني ألقيت بالتحية ملوّحة بيديّ للزملاء والزميلات وكذلك الصديقات. الغريب أنني لم أسلم من التعليقات، ومن تقبلني عبر كمامة الوجه، قبلات عديدة منهمرة عليّ من كل صوب وحدب، اغتظت، فلماذا أضع الكمامة الطبية إذن؟

حتى فوق الكمامة يا ربي لم أسلم من القبلات والأحضان، يا خلق الله هناك وباء منتشر، ماذا أفعل؟ هل أعلق على خدودي فوطة صفراء كسائقي التاكسي، وأكتب فوقها: مرفوع مؤقتا من الخدمة؟

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: