حراك الريف: تقرير حقوقي أم فضيحة سياسية؟

يقول بعض علماء الاجتماع البشري إن التاريخ يكتبه المنتصرون، والمجلس الوطني لحقوق الإنسان بدفاعه بطريقة فاضحة عن الدولة والأمن وانتقاده وتحامله على متظاهري الريف يؤكد إيمانه الضمني بهذه المقولة. الطابع المتحيز، والهادف إلى فرض رواية النظام السياسي ضد مواطنين تجاسروا عليه بسلمية منظمة وواعية بذاتها، إلا ما ندر، يبرهن عن إرادة المجلس في تزييف الحقيقة وغرس ذلك في عقول الناس بلغة «دبلوماسية» تريد ألا تصدم أحدا والتي يمكن أن نقول عنها إنها تدس السم في العسل.‎ ويبدو أن رئيسة المجلس واعية بأن الرأي العام لن يقبل هذا التقرير كما هو بل لن يحمله على محمل الجد حتى. فقد صرحت بما معناه، أثناء تقديمها للتقرير الرسمي، أن هيئتها‎ لن تعتبر المزايدات التي ستعقب نشره.
يظهر من المحتوى ومن الخطاب المستعمل أن الهدف العام للتقرير-الفضيحة هو نزع المشروعية عن الحراك وخصوصا عن قيادييه وذلك باتهامهم بالعنف وعدم احترام حقوق الإنسان ومن ذلك احترام الحق في العبادة… محاولة نزع المشروعية هذه تبتدئ برفض استعمال مفهوم «حراك الريف». وذلك لأن للحراك معنى سياسيا واضحا وقد استُعمل حديثا بهذا المعني بالجزائر والسودان واليمن ولكن المغرب حسب الخطاب الرسمي بلد استثنائي. كذلك يحاول التقرير تبرير رفض استعمال «الريف» على أساس أن الحراك أو «الاحتجاجات»-وهي الكلمة التي اختارها التقرير- اقتصرت جغرافيا على الحسيمة. وهذه معلومة خاطئة تماما. فالحراك ابتدأ فعلا بالحسيمة، العاصمة الثقافية للريف، وتركز فيها. لكنه مس كل مناطق الريف ومكوناته الاجتماعية والبشرية داخل المغرب وخارجه. رفضُ التسمية هذا يبرهن أولا عن الموقف غير المحايد للمجلس الموّقر، ثم أنه يجعلنا نباغت المجلس وهو يجتهد ويتصرف كأحد أذرع ما يسميه لوي ألتوسير «بالجهاز الإيديولوجي» للنظام السياسي اذ يهدف بين ما يهدف إليه، التأثير على الرأي العام بوضع كلمات على لسانه وتعويده بل وترويضه عليها، مع محاولة محو أخرى من ذاكرته. وهذا أمر سخيف لأن صوت المجلس سيبقى مبحوحا خارج الإعلام الرسمي فالإعلام الاجتماعي والدولي كما رجل الشارع سيستمر ولاشك في استعمال مفهوم حراك الريف حتى ولو اقتنع الجميع بالفتوى اللغوية للمجلس. «فحراك الريف» أصبح اسم علم وسيبقى أغلب الناس يلهجون بذكره. لماذا كل هذا المجهود في محاولة شطب كلمتين، أصبحتا مرتبطتين، من الذاكرة الجمعية؟ رفض استعمال كلمة الريف ينم أولا عن محاولة تقزيم الحراك جغرافيا ومعنويا. ولأن الريف، ثانيا، «مقولة سياسية» بالمغرب، وليست كلمة عادية مبتذلة. فهي ترتبط بجمهورية الريف وبالأمير عبد الكريم الخطابي وبمناهضته لمن كان يدعوه «سلطان أرومي» (الروم-أوروبا) وهي تحيل على مقاومة التوسع الاستعماري، حديثه (1920 ـ 1956) وقديمه أي الذي جرى أيام محاكم التفتيش. ما يخيف إذن النظام السياسي وجهازه الأيديولوجي وضمنه المجلس هو هذا البعد السياسي لكلمة-مقولة الريف الضاربة بأصولها في أعماق تاريخ المغرب والمناقضة سيميائيا للطغيان سواء كان خارجيا أو داخليا.

التاريخ يكتبه المنتصرون، والمجلس الوطني لحقوق الإنسان بدفاعه بطريقة فاضحة عن الدولة والأمن وانتقاده وتحامله على متظاهري الريف يؤكد إيمانه الضمني بهذه المقولة

كذلك يحاول التقرير جاهدا إلصاق تهمة العنف بالمتظاهرين. فها هو يقول ‎في أحد فقراته إن» السيد ناصر الزفزافي اقتحم المسجد أثناء خطبة الجمعة مقاطعا الإمام ومخاطبا المصلين». وأول ملاحظة هو أن الفرق الوحيد في هذه الجملة مع لغة المحاضر الأمنية المعتادة حول حراك الريف هو كلمة «السيد» فمحررو المحاضر يفضلون «المدعو» وهي كلمة قدحية بالمغرب، والمجلس لديه إكراه «ديبلوماسي» لا يمكن تجاوزه وإلا أصبحت مصداقية وثيقته لا تتجاوز مصداقية وثائق النيابة العامة. نستشف كذلك في ما يخص محتوى الجملة، إرادة بينة في التغليط. فكلمة «الاقتحام» مبالغة وتجن وكان يمكن استبدالها ‎بكلمة دخول مثلا.
كما أن التقرير الذي يفتخر بأنه حصيلة «أشهر طويلة ومضنية من الاشتغال، سواء على مستوى التحريات أو على مستوى التحقق من المعلومات وتقاطعها-، يشيح بنظره بعيدا عن إمام المسجد الذي كان يتلي خطبة سياسية نارية لا تقيم أي اعتبار لقداسة المكان وحياديته المفترضة وتعددية آراء المصلين. هاجمت الخطبة الحراكيين ورمتهم بأقذع النعوت والتهم كما كانت وبطريقة استفزازية موجهة، عبر مكبرات الصوت، لكل حي سيد العابد المعروف بتاريخه المعارض للنظام. أفلا يعقلون!؟ وأعني هنا مسؤولي وزارة الأوقاف والأمن. أهذا مجرد انعدام كفاءة أم أن هدف البعض كان هو دفع الساكنة للعنف لتبرير حملة الاعتقال والتي كان قد هُيئ لها فعلا بنعت الحراكيين من لدن الأغلبية الحكومية بالانفصاليين وبالتعامل مع الأجنبي. وفعلا فإنه، مباشرة بعض هذه الاتهامات الرسمية الخطيرة علم الناس أن الدولة قررت البدء بحملة اعتقالات عنيفة ولا قانونية لوضع حد للحراك المحلي الأطول والأقوى منذ عقود. ويمكن أن ندلل على هذا بتصريح حذرت فيه السيدة سعاد الشيخي، وهو قيادية في حزب حكومي، من أن «يكون اجتماع أحزاب الأغلبية غطاء سياسيا لاستعمال العنف».
ولنرجع لحادث المسجد الذي برر رسميا اعتقال الزفزافي كما ساهم في تبرير الحكم عليه بعشرين سنة نافذة‎. فالغريب أن التقرير الموقر يستشهد ببعض ما قد يكون قاله الزفزافي بالمسجد من كلام راديكالي منتقد رغم أن تصريحه كان شفويا (من سجله؟) ‎بينما لم يهتم بالإحالة على الخطبة التي توصل بها الإمام مكتوبة قبل أن يقرأها. ‎كذلك ورغم التحريات المضنية المزعومة فالتقرير، أو على الأقل ملخصه الذي اطلع عليه كاتب المقال، يشتمل على سجال فارغ وأخطاء عديدة لا يتسع الحيز لذكرها. بعض هذه الأخطاء ليست نتيجة للتسرع أو السهو بل هي مقصودة وهدفها تبرئة الدولة والقضاء من تهمة المحاكمة الجائرة لمعتقلي الريف. فالتقرير يؤكد مثلا أن محكمة الدار البيضاء بنت حكمها على ما راج أمامها. وهذا ادعاء لا أساس له اذ اعتمدت المحكمة على محاضر الشرطة القضائية في تفسيرها كما رفضت الاستماع لشهود النفي متغاضية عن ادعاءات التعذيب. وفي هذا تبعها تقرير المجلس الحقوقي الرسمي الذي تغاضى عن خبرة الطب الشرعي التي تقول بأن بعض المعتقلين خضعوا للتعذيب كما تغاضى عن الإهانة الجنسية الذميمة التي تعرض لها زعيم الحراك. هذا الأخير الذي نشرت مواقع مقربة من الأمن فيديو له وهو شبه عار وبين يدي الشرطة القضائية، رغم أن القانون يحمي خصوصيته. فمن سرب هذا الفيديو الحاط من كرامة زعيم الحراك للمواقع الامنية؟ أليس بعض من الأمن نفسه؟ فكيف يمكن أن نأتمن هذا البعض من الأمن على بعض من مواطنينا؟

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: