الواقع المؤلم للرأسمال الثقافي في الجزائر
من الملاحظ منذ البداية أن الجزائر لا تملك سياسة ثقافية واضحة المعالم وذات أبعاد وطنية محلية، وعربية ودولية في آن واحد، وجراء ذلك تعتبر الجزائر المستقلة من بلدان العالم الثالث التي ضيعت فرص الحضور الثقافي المؤثر في الدوائر الجغرافية المغاربية والمشرقية العربية والعمق الأفريقي والأوروبي، علما أن كل الوقائع تؤكد أنها توجد في ملتقى الغرب والشرق.
ومن المؤسف أن كل شعارات النهوض الثقافي التي رفعت في فترة الاستقلال لم تجد أي تطبيق ميداني جدي وفي المقدمة وعد الانفتاح على الثقافة الأفريقية الخصبة والمتنوعة وعلى ثمرات الثقافة الأوروبية المجاورة بمناسبة احتضان الجزائر في أوائل سنوات الاستقلال للمهرجان الثقافي الأفريقي، وحصولها على عضوية المنظمة العربية للثقافة والتربية والعلوم ومنظمة اليونسكو واتحاد الكتاب والأدباء العرب، فضلا عن العضوية في عدد من الهيئات والمنظمات العربية والدولية ذات الطابع الثقافي والسياحي وهلم جرَا.
ففي فترة الثمانينات من القرن الماضي شهدت الجزائر محاولتين في مجال تنظيم قطاع الثقافة والفنون ولكنهما بقيتا حبرا على ورق حيث لم تستغلا، وتتمثل المحاولة الأولى في إنجاز ملف السياسة الثقافية الذي عقب تشكيل الاتحادات الثقافية والفنية، فضلا عن إنشاء كتابة دولة للثقافة والفنون الشعبية التي قامت في ذلك الوقت بندوات تحسيسية وتقييمية مهمة للوضع الثقافي الوطني، بنية مادية ونشاطا ميدانيا، ولقد نتج عنها تقرير دقيق وشامل تضمن مضامين تلك الندوات التي شارك فيها بفعالية الكتاب والأدباء والمؤرخون والفنانون ومختلف المنخرطين في الشأن الثقافي والفني.
من المعروف أن الاستعمار الفرنسي قد ترك بنية مادية ثقافية في الجزائر، ولكن هذه البنية قد تعرضت للتخريب المنهجي مثل تحطيم التماثيل الفنية، وطمس أسماء فنانين وفنانات كبار في مجال الفن التشكيلي والغناء والموسيقى، ودفن الصحف ذات الطابع الاجتماعي والثقافي.
أما على مستوى الهياكل المادية فقد تركت فرنسا أروقة لعروض الفنون التشكيلية، وقاعات للسينما ومكتبات ومسارح في عدة مدن جزائرية، ولكن المسؤولين الجزائريين طوال فترة الاستقلال تركوا تلك البنايات الفخمة فريسة للتآكل والتفكك.
إذا تأملنا ما حدث ولا يزال يحدث في ميدان المعمار الموروث والذي هو بعد ثقافي وفني وحضاري بامتياز، فإننا نصاب بالفجيعة جراء تفشي ظاهرة اندثار معالم أشكال المعمار القديمة ذات الأصل الجزائري وتلك التي تعد جزءا ثمينا من التراث المعماري الحضاري الذي خلفته الإمبراطوريات الأجنبية الكبرى التي شهدها الفضاء التاريخي الجزائري.
وإلى حد الآن لا يوجد تنظيم حداثي للمعمار الجزائري من طرف الدولة وجراء ذلك فقد تحولت المدن والقرى إلى أشباح من الخراب المحاصر بركام المزابل المتراكمة، والوحول في الشتاء والغبار في الفصول الأخرى.
وفي هذا الخصوص بالذات فإن الجزائر قد فشلت فشلا ذريعا في إنتاج هوية معمارية وطنية ذات خصوصية ومؤسسة على نماذج التراث المعماري القديم ونماذج المعمار الموروث عن الحضارات المتعاقبة بالجزائر. وعلى هذا الأساس فإن الثقافة المعمارية المتميزة والمتطورة وجماليتها مطموسة ومغيبة في المشهد الوطني بالكامل.
وفي إطار البنية المادية للثقافة والفن يلاحظ أيضا أن المكتبات العمومية والخاصة في الجزائر قليلة جدا مقارنة بتعداد السكان الذي يربو على 45 مليون نسمة. وأكثر من ذلك فإن المكتبة الوطنية بالعاصمة، مثلا، تتميز بفقر نوعية وكمية المؤلفات التي تحتويها وبخلوها من الرصيد الفكري والعلمي والفني الأجنبي المؤثر في العالم.
وباختصار فإن المكتبات العمومية والخاصة في الجزائر لم تساهم حتى الآن في الإقلاع الثقافي الوطني وفي خلق البيئة الثقافية المتقدمة ذات الإشعاع في الفضاءات الحضرية وفي أرياف الجزائر العميقة. وبعبارة أخرى فإن المكتبات في الجزائر ليست سوى رفوف يتآنس فيها الغبار والصمت والكتب الصفراء القديمة والحديثة معا وغير مؤهلة معماريا وتنظيميا لأن تكون منصات للتثقيف الحضاري.
هناك مشكلة خطيرة في الوضع الثقافي الجزائري وتتلخص في أن جميع المعالم الثقافية والحضارية منسية أو مدمرة وكان بالإمكان تحويلها إلى نقاط مضيئة في الحياة الوطنية، فضلا عن استثمارها كقوة ناعمة اقتصاديا بما في ذلك الثروة الأثرية على امتداد الصحراء الجزائرية الأكبر في العالم.
وبسبب ذلك نجد جميع المواقع الحضارية حيث ولدت رموز الهوية الثقافية والفنية الوطنية مطموسة، ولا يعرف عنها العالم شيئا يذكر، وفي هذا الخصوص يمكن الإشارة إلى موقع أكبر أهم جامعة فلسفية تأسست في التاريخ القديم بمداورش بمنطقة الأوراس، الذي لم تنفخ فيه الحياة ولم يروج له ليكون مزارا فلسفيا ملهما لمدرسي وعشاق الفلسفة وللفلاسفة في العالم معا، وزيادة على هذا فإن الدولة لا تملك مشروع تأسيس متاحف للأدباء والمفكرين والفنانين عبر الوطن لترسيخ مثل هذا التقليد الحضاري الذي من شأنه أن يربط الأجيال بذاكرتها الأدبية والفكرية والفنية ويغذيها روحيا.
هناك إنكار جزائري مفزع للشخصيات الأجنبية الأدبية والفكرية والفنية التي عاشت وأنتجت في الجزائر، أو لتلك التي ارتبطت بها بأواصر روحية ورمزية بدءا من المفكرين والفلاسفة والأدباء والفنانين القدامى والمحدثين والمعاصرين أمثال أبوأليوس لوكيوس، وأفلوطين، والقديس أوغسطين، وابن خلدون، وكارل ماركس، وجان بول سارتر، وسيمون دو بوفوار، وألبير كامو، ولوي ألتوسير، وروجيه غارودي، وجان فرانسوار ليوطار، وجاك دريدا، وإتيبان ديني، ومريم ماكيبا، وسعدي يوسف، وسليمان العيسي، وشوقي بغدادي، وعبدالعزيز الراغب، ومنور صمادح، ويوسف إدريس، وغيرهم كثير جدا حيث أن هؤلاء لم يصبحوا رموزا ثقافية شعبية في ضمير الأجيال الجزائرية الجديدة.