«كورونا» يكشف فضيحتنا!

تنشغل مختلف الفضائيات العربية والدولية وشبكات التواصل الاجتماعي، بل العالم كله، بفيروس كورونا، الذي أصبح وباءً يجول في الكرة الأرضية حراً طليقاً، وطولاً وعرضاً، وكما يشاء.
تجاه وباء مفاجئ بهذا الحجم، لا بد أن يكون هناك لغط كبير في تحديد الأسباب وتحليل النتائج. وإذا عدنا إلى ما تعرضه الفضائيات، يمكن أن نصل إلى ثلاث خلاصات.
الأولى، انشغال الفضائيات في كيفية حدوث المرض وانتقال عدواه، ثم محاولة بث بعض الأمل للقضاء عليه في الشهور القليلة من الشهور المقبلة حين يزحف الصيف، لأن فيروس كورونا لا يتحمل العيش في معدل حرارة يتجاوز العشرين درجة، الشيء الذي جعل هذا التصور لا يخرج عن ما هو تقني بدون التعرض إلى الحقيقة المتمثلة في قدرة هذا الفيروس على إحداث واحدة من أفجع الدواهي، التي لم تعرفها الإنسانية منذ مئة سنة خلت على الأقل.
الخلاصة الثانية، هو انتقال خطاب الفضائيات من التصور التقني إلى تصور فوباوي. إذ وقعت من حيث تدري أو لا تدري في إرباك متتبعيها في بث كثير من الذعر والتخويف.
وهذا ما تسبب في الإخلال بنظام اجتماعي له صلة بالأمن الإنساني. ويتمثل هذا الإخلال في حدوث هرج ومرج كأنه يوم القيامة، فسارع الناس إلى الصيدليات لابتياع الكمامات «الواقية» إلى حد إخلائها من الأسواق، كما تهافتوا في هلع على المراكز التجارية لاقتناء منظف «جيل الديتول»، الذي شح بدوره وندر. ولم يعلم هؤلاء المتسارعون والمتهافتون أن ارتداء الكمامة يجب أن يكون للمصابين فقط.
كما أن الغسيل بـ«جيل الديتول» وحده لا يرد استحكام الفيروس بالشخص سيئ الحظ.
المفارقة في الأمر، أن هناك جهلاً لواقع الفيروسات والأوبئة في مختلف مجتمعات العالم، على الرغم من التقدم التكنولوجي وآليات الذكاء الاصطناعي.
وهنا المشكلة أيضاً! المجتمعات الإنسانية تعيش رغبة قوية في الانفتاح على المستجدات العلمية والتعاطي بحيوية مع آلياتها، لكن هناك جهلا مريعا بما يتعلق بالقضايا اليومية المتصلة بالصحة وأمنها الإنساني.
يعكس هذا التناقض أن الإنسان اليوم عبارة عن قطيع تابع، تارة يهرع في لهاث وراء الجديد المغري وأخرى يفزع من الجديد المناقض، الذي لم يكن يحسب له في السابق أي حساب. تلك هي مشكلة مجتمعات العالم الآن، وبدون استثناء، مع فيروس كورونا.
الخلاصة الثالثة، فيروس كورونا حل محل الانشغالات السياسية والاجتماعية، ومنها احتجاجات الشارع العربي في العراق ولبنان وتونس والجزائر.
هنا نطرح سؤالاً: هل فعلاً أن حقيقة الإنسان هي الجزع أمام الأضرار الذاتية والسهو عن القضايا السياسية والفكرية الكبرى، باعتبار هذه الأخيرة لها طابع جمعيّ؟
نستذكر هنا ما قاله الفيلسوف الألماني هايدغر في معرض حديثه عن «الديزن»: إن الإنسان يشعر بخلل وجودي عميق لما يحس أنه يواجه الموت الناتج عن المرض. فالقلق الذي يصاب به في هذه الحالة هو ذاتي، لا يهتم بغيره. وهذا النوع من القلق أقسى وأكثر إيلاماً من القلق الجمعي المتمثل مثلاً في الفكرة السياسية أو الاجتماعية».
أرى شخصياً أن فيروس كورونا، كما تحدثت عنه الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي، قد فضح هشاشتنا، وعرّى ضعفنا المقيت وسطحية إنسانيتنا، حين أصابنا بفوبيا الموت الفردي، بدون أن نتمكن من الحفاظ على نظام مجتمعاتنا بالتوازن الذاتي المطلوب.
الحكمة في هذا الفضح وهذه التعرية أنها وضعتنا أمام حقيقة أعمق. وهي لماذا فشلنا في أن نؤسس لإنسانية راجحة العقل، متينة النفس، متبصرة الرؤية؟
إننا حقاً قطعان حيوانات ناطقة يستميلها أي مد قوي من أية جهة كانت. بمعنى أننا نعيش أزمة إنسان يفتقد دلالة الشمول والتوازن التاريخي والاجتماعي.
الأدهى في هذا كله أن هناك تخريجات سياسية لِما وقع، أوردتها كثير من القنوات، ومنها قناة «رويترز»، التي ذكرت أن هذا الفيروس يلخص ذلك الصراع المهول بين أمريكا والصين، إذ يرجح أن التفوق التجاري لهذه الأخيرة وإمكان احتلالها المرتبة الأولى تكنولوجياً في السنين القريبة، جعل أمريكا تبدع حرباً فيروسية ضد غريمتها. لكنها لم تتوقع أن هذا الفيروس سيضرب بقوته خارج أراضي الصين ليحدث خللاً في ذلك الانتظام الإنساني، الذي تحدثنا عنه سابقاً ويهدد أمريكا ذاتها.
من الممكن أن نأخذ بهذه الفرضية، ولكنني شخصياً أرى أن الأمر له وجهة أخرى تتعلق بواقع النظام العالمي الجديد، الذي أصيب بفيروس أكثر بشاعة من كورونا.
ألا وهو فيروس الليبرالية المتوحشة، التي جعلت من قيمة الإنسان شكلاً يشبه الأرقام أو الأشياء تبيعه وتشتريه وفق منطق السوق الذي صنعته. لقد جعل هذا الفيروس العالم يهوي ببطء إلى درك الأنانيات المفتونة بالمادة. هذا الافتتان هو الذي تترجمه فوبيا وهستيريا العالم خوفاً من كورونا، الذي يعادل الموت، أو «بنشوء ذلك القلق الدفين الذي يجعل من الإنسان قابلاً لأن يخرج من نوعه الطبيعي إلى ما يناقضه، وهو الغواية بالأنا المنفردة أو بتعبيره بالأنا المنغلقة»، كما يعبر هايدجر.
تعلمت شخصياً من ظهور فيروس كورونا، وهيئة الإنسان، وهو يتابع أخباره ويترصد ضحاياه ويرتبك بمآلاته، أننا نعيش بؤساً داخلياً لا يؤهلنا لأن نصنع ذلك العالم، الذي نحلم به بسجية الإنسان، كما خلق بها وفيها.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: