ثورة “الابتسامة” بلا بسمة في الجزائر

طوى الحراك الجزائري عامه الأول، دون حلول في الأفق، ولا بوادر لتحقيق مطالبه، مما أثار المخاوف من أن يتحول إلى ظاهرة فولكلورية، تتكرر أسبوعيا دون أن تجبر السلطة الحاكمة على القيام بالإصلاحات المطلوبة. ويرى أنصار الحراك أن مجرد صموده أمام المناورات التي استهدفته ومروره إلى العام الثاني، هو انتصار قطع مع العهد البائد ويطمح لاقتلاع جذور النظام برمته.

دخل الحراك الجزائري منذ السبت الماضي عامه الثاني، ولم يعد بإمكان أي جهة عدم الاعتراف به كأمر واقع، كما لم يبق أمام السلطة إلا السعي لابتلاعه أو توجيهه إلى وجهة تقدم لها مبررا لأجندتها، فحتى السلطة المناهضة للحراك باتت تصفه بـ”المبارك”، وتمد له يدها على حد تعبير الرئيس عبدالمجيد تبون.

ولأن الحراك الشعبي رفع سقف مطالبه التي لم تتوقف عند حدود إجهاض الولاية الرئاسية الخامسة للرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة، فإن انزعاج دوائر النظام بات يعبر عنها بمحاذير “عدم الاختراق” و”عدم الانجرار إلى أجندات خفية”، والرئيس عبدالمجيد تبون، الذي يمثل الآن الرأس الأولى المطلوبة لدى المحتجين، لم يتعد انزعاجه حدود تحذيرات وجهها عبر تصريحه الأخير للتلفزيون الروسي، حول ما أسماه بـ”الاختراق” و”الاستهداف من طرف دوائر داخلية وخارجية”.

عمى البصيرة

كان شهاب صديق، الناطق الرسمي السابق باسم حزب التجمع الوطني الديمقراطي، الذي كان يعد أحد أضلاع التحالف الحزبي المؤيد لبوتفليقة، قد قدم توصيفا دقيقا لما آلت إليه أوضاع السلطة قبل اندلاع احتجاجات الحراك الشعبي، واختصره في “عمى البصيرة”، قائلا “لو كان أدنى شيء منها للسلطة، لما دفعت الشارع للانتفاض ضدها، فمظاهر الاستغفال بلغت مداها لما أصرت على ترشيح رجل غائب عن الأنظار لانتخابات أبريل 2018، وتمادت في استفزاز الشعب لدرجة ممارسة طقوس سياسية مثيرة، كأن يرمز لرئيس البلاد بـ’إطار صورته أو أن يكرم إطاره بإطار آخر’”.

عبدالحق بن سعدي: الحراك الشعبي حرر الإرادة الشعبية من سطوة السلطة

ويرى الكثيرون في الجزائر أنه كان بإمكان نظام بوتفليقة أن يحمي نفسه ويحمي البلاد من أتون الأزمة الحالية، لو تنازل عن مشروع الولاية الرئاسية الخامسة، وخلف الرئيس بوتفليقة، مرشح آخر من الصفوف الخلفية للنظام، إلا أن “عمى البصيرة” حرك الأرض من تحت قدميه وأخرجه من الباب الضيق.

ومثلت الذكرى الأولى للحراك محطة لترتيب الأوراق في صفوف الناشطين، الذين باتوا متأكدين أن الانتفاضة التي انطلقت ضد الولاية الخامسة للرئيس بوتفليقة، صارت عقيدة سياسية متجذرة لا يمكن العودة عنها إلا بتحقيق مطالب التغيير الشامل والانتقال الديمقراطي.

ولأن التعبئة الشعبية صمدت أمام كل الظروف والمعوقات الطبيعية، والمناورات السياسية والتعتيم الإعلامي، واستطاعت الوصول إلى طي عامها الأول، فإن مرورها إلى العام الثاني سيكون برصيد من الخبرة والوعي الجمعي في التعاطي مع نظام سياسي أثبت هو الآخر صموده أمام كل العواصف الشعبية التي تدوي في البلاد أسبوعيا.

ورغم النتائج السياسية النسبية المحققة من طرف الحراك طيلة عام من الاحتجاج ضد السلطة، فإنه مازال يتشبث بأنه لم يعد بإمكان السلطة العودة إلى ما قبل الثاني والعشرين من فبراير 2019، بعد كسر الطابوهات التي راكمتها السلطة طيلة عشرية من الحرب الأهلية وعشريتين من نظام بوتفليقة.

وأصبحت عقيدة المشاركين في الحراك مبنية على مقولة “من قام بنصف ثورة كمن حفر قبره بيده”، وقد تكرست هذه المقولة لدى الشارع الجزائري، مما يعطي الانطباع بأن الوضع في الجزائر مرشح للمزيد من التجاذب إلى غاية تحقيق المطالب أو تقديم السلطة لتنازلات جوهرية.

أمام ثوابت الحراك الشعبي المتمثلة في سلمية الاحتجاجات السياسية وعدم الانجرار لاستفزازات العنف، وعدم الاستقواء بأي قوة أجنبية، يعتبر أنصار الحراك أنهم يواجهون سلطة عنيدة وقوى إقليمية ودولية ترفض التغيير السياسي في الجزائر، فباستثناء وسائل إعلام دولية وبعض المنظمات الحقوقية، لا يوجد أي طرف تحرك لإنصاف الاحتجاجات الشعبية والضغط على السلطة القائمة للاستماع إليهم.

وأمام استحالة استمرار تجاهل الأمر الواقع، فإن توجه الخصوم لمحاولات ابتلاع الحراك استنادا لنصائح مراكز دراسات تم الاستعانة بها، بغية إيجاد الوصفة الناجعة لإنهاء حالة الحراك الشعبي في البلاد، في مؤشر يؤكد أن السلطة تبذل كل الإمكانيات المتاحة لتجاوز الوضع القائم، بما فيها مراجعة الكثير من الملفات التي تقدم مغريات للشركات الكبرى، لاستمالتها إلى صفها، كما هو الشأن بالنسبة لقانون المحروقات والاستثمار، والتوجه للمقامرة بمشروع الغاز الصخري.

إلا أن التحول السياسي العميق في الشارع الجزائري، يبقى جدارا صلبا في وجه مناورات السلطة، وتبقى معه ورقة الاستقرار السياسي والاجتماعي حجر عثرة أمام براغماتية الشركات الكبرى والجهات الفاعلة، في ظل جبن رأس المال، وقد تدفع الحسابات تلك القوى إلى الانسحاب ماديا ودبلوماسيا، وتترك السلطة وحيدة في مواجهة مصيرها مع شعبها.

نصف ثورة

Thumbnail

يقول أستاذ علم الاجتماع نورالدين بكيس، أن “تاريخ 22 فبراير 2019، شهد عودة الجزائريين إلى السياسة بعد اعتزالها على مدار 20 عاما، وأن الشارع كان لا يؤمن بقدرته على تحريك الأشياء، لكن عندما أدرك أنه يستطيع، تحرك بشيء من العفوية وأخذ مسؤوليته”.

وأضاف “الشارع عندما رأى أنه في كل مرة يتحقق شيء، بدءا من استقالة الرئيس إلى سجن كبار القادة العسكريين والسياسيين، انساقت نفسيته إلى رفع سقف المطالب إلى أقصى درجة وطالب برحيل كافة رموز النظام السابق”.

أما أستاذ العلوم السياسية عبدالحق بن سعدي، فقد صرح لـ“أخبارنا الجالية ”، بأن “الحراك الشعبي حرر الإرادة الشعبية من سطوة الزبائنية وهيمنة السلطة عليها، بعد مسار طويل من سياسة التهميش والتيئيس والدفع بها إلى الاستقالة، وكسر حاجز الخوف، كما أسقط العهدة الخامسة وأسقط معها جناحا مسيطرا ولكنه لم يسقط النظام الحاكم”.

وأرجع المتحدث ذلك إلى قدرة النظام على مواجهة الهزة بعد تحقيق الاستمرارية بواسطة تشتيت صف الحراك وتمرير الانتخابات بالتزوير والتهديد والتضييق، وهو ما أبقى الحراك عاجزا عن تحقيق الهدف الرئيسي الذي سطره لنفسه بعد إسقاط العهدة الخامسة، وهو التغيير الشامل للنظام.

ويرى ملاحظون في الجزائر، بأن المؤسسة العسكرية هي التي استفادت من ثورة “الابتسامة”، بعدما تمكنت قياداتها من استغلال الحراك الشعبي لتصفية حساباتها وترتيب التوازنات لصالحها داخل السلطة، واستغلت حاجة المحتجين إلى قوة داعمة لهم من داخل النظام لتمرير أجندتها وبناء قواعدها.

وبعدما كان القائد الراحل لأركان الجيش الجنرال أحمد قايد صالح، يوصف بأنه إحدى أدوات نظام بوتفليقة، وتخندق خلفه إلى غاية الأسابيع الأولى من الحراك الشعبي، حيث لم يتوان في وصف دعوات الحيلولة دون مرور العهدة الخامسة بـ”الانقلاب على الشرعية والدستور”، ووصف المتظاهرين في الأسابيع الأولى بـ”المغرر بهم”، و”الأيادي الخارجية”، فإنه في المقابل يعد الشخصية الرئيسية التي ضغطت على بوتفليقة ليتنحى عن السلطة، كما أنه هو من شن حملة واسعة أفضت إلى سجن شخصيات ورموز كثيرة من النظام السابق.

نورالدين بكيس: الحراك أعاد الجزائريين إلى السياسة بعد عقدين من اعتزالها

وتحت ذرائع إسقاط العصابة، انتقل نفوذ العسكر إلى تسيير علني للأزمة وفرض مقاربته السياسية وتنظيم انتخابات رئاسية رفضها الشارع، جاءت بعبدالمجيد تبون رئيسا للبلاد في الـ12 من ديسمبر الماضي، رغم شعارات “الجنرالات في المزبلة”، التي زعزعت الصورة المقدسة للجيش في مخيال الجزائريين، وحولتهم إلى الخصم الأول الذي تلاعب بمطالب الحراك والتف عليها، عبر مروره إلى تجديد نفس النظام بوجوه وآليات جديدة، فصنعوا بذلك لأنفسهم وصفا جديدا يردد أسبوعيا في المسيرات الشعبية هو “عصابة في السجن وأخرى في الحكم”.

وحول سؤال عن سر صمود الحراك الشعبي، يرى أستاذ العلوم السياسية عبدالحق بن سعدي، في تصريحه لـ“أخبارنا الجالية ”، بأنه “بعد عام من المسيرات السلمية، يمكن الإشارة إلى الرغبة الملحة لدى الجزائريين للانتقال إلى عهد جديد يتسم بالديمقراطية والعدالة، وهو ما جعلهم يستمرون في التظاهر رغم الظروف الطبيعية ومحاولات كسر الحراك من طرف السلطة التي استعملت مختلف الوسائل ولجأت إلى التعتيم والتضليل”.

وأضاف، “غير أن هذا الثبات لم يكن يحمل الفعالية اللازمة لدفع السلطة للاستجابة لمطالب الملايين من الجزائريين، وربما هذا ما يفسر طول المدة التي يعيشها الحراك بعدما ‘ضيع’ الفرصة المواتية في الأسابيع الأولى لأحداث التغيير، وعليه فبقدر ما يعبر بقاء الحراك عاما كاملا عن صمود أسطوري لحركة شعبية سلمية أبهرت العالم، بقدر ما يعبر عن خلل يعانيه الحراك حال دون تحقيق هدف التغيير”.

ويرى المتحدث أن “الاتجاه الآن يشير إلى اقتناع عدد من فعاليات الحراك بضرورة الانتظام في شكل تنظيمات سياسية قد تكون بداية إنهاء مرحلة غياب قيادات، وقد رفضت السلطة منح الرخصة لعقد فعاليتين في بحر الأسبوع الماضي، ما يعني تفطنها للأمر وسعيها لإبقاء الحراك بشكله الشعبوي الفاقد للفعالية”.

ويخلص إلى أن “تأكيد الحراك على الاستمرار وعدم الرجوع إلى الوراء في ظل عدم تحقيق أي تقدم يذكر بعد استقالة بوتفليقة، يكون من المنطقي أن يرفض خطاب السلطة باعتبارها فاقدة للشرعية، ويتعامل معها على أساس أنها سلطة الأمر الواقع ليحافظ على مبررات استمراره وتعبئة الجماهير”.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: