إلى أين تتجه تحولات نخب السياسة والمال في المغرب؟

حصلت في الآونة الأخيرة تطورات كبيرة في مربع السياسة والمال، تؤشر على تحولات عميقة في توجه الدولة، إذ ليس من المألوف أن يصدر قرار كبير بتغريم عملاق الاتصالات في المغرب بملغ 3.5 مليار درهم، بسبب سلوكه الهيمني على قطاع الاتصال وعدم احترامه لمبادئ المنافسة، وليس من المعهود أيضاً أن يتم جر البنوك كلها إلى تمويل المشاريع لفائدة المقاولات الصغرى والمتوسطة بسعر فائدة لا يتجاوز 2 في المئة ويقل عن ذلك في العالم القروي، بل ليس من المألوف أيضاً أن يصدر قرار كبير بهدم مشروع سياحي كبير في منطقة تاغزوت بأكادير يعلم الجميع أن وراءه الملياردير المقرب من السلطة السيد عزيز أخنوش الأمين العام لحزب الأحرار. فمثل هذه القرارات تدرس خارج قواعد النسق الطبيعي التي تؤطر مناخ الأعمال في المغرب، فما بالك إن جاءت كلها متزامنة أو لا يفصل بين الواحدة الأخرى إلا وقت وجيز.
في مربع السياسة، جرت مياه كثيرة هي الأخرى غير مألوفة، على الأقل بالنسبة لما ترسخ من قواعد الطبيعة السياسية كما تجري في المغرب، فقد وقع تحول في حزب الأصالة والمعاصرة، وانحازت السلطة لخيار «إصلاح البام» وتغيير تكتيكات العلاقة مع حزب السلطة وذلك من خلال انتخاب السيد عبد اللطيف وهبي، ويبدو أن بالون الاختبار المتعلق بتوحيد اليسار، والتي خرجت فكرته من أروقة السلطة، بدأت تتفاعل لدى مكونات هذا اليسار، فلم يعد السيد إدريس لشكر الكاتب الأول لحزب الاتحاد الاشتراكي يردد هذه المقولة وحده، بل تلقفها حتى بعض رموز الحزب الاشتراكي الموحد، وخرج محمد الساسي يتحدث عن الحاجة لحزب يساري جديد، مع أنه حديث عهد بتأسيس فدرالية اليسار، التي تضم بعض مكونات اليسار الجذرية، والسيد نبيل بن عبد الله نفسه، في أكثر من تصريح، عاد يغازل فكرة توحيد اليسار، وهو الذي لم ينقطع من قبل بالتذكير بهذا الموضوع.
الملفت في هذه التحولات، أن ثمة دينامية كبيرة انطلقت داخل حزب الوردة، تقودها في الظاهر حسناء أبو زيد، وتدعمها شخصيات قوية في هذا الحزب، تروم إنهاء مرحلة إدريس لشكر، والتوجه نحو إصلاح الأداة الإصلاحية لهذا الحزب، بما يعنيه ذلك إعادة طرح موضوع توحيد اليسار والدور المركزي المفترض أن يقوم به الاتحاد في هذا الإطار لكن بعد إصلاحه، أي بعد التخلص من قيادته الحالية.
قد تبدو التحولات التي تجري في مربع السياسة منفصلة أو بعيدة عما يجري داخل مربع الأعمال، لكن تحليل أبعادها يحيل إلى وجود ترابط متين بين هذه الديناميات، فإذا كانت الدولة في المغرب، منشغلة بفكرة بلورة نموذج تنموي جديد، وشكلت في هذا السياق لجنة أطلقت دينامية كثيفة للتشاور مع مختلف الفاعلين والمؤسسات ونخب المجتمع المدني، فإن الدافع خلف ذلك، هو الرغبة في إحداث تغيير استباقي يشمل كافة المستويات، يعين الدولة على تجاوز إحتقانات اجتماعية متوقعة وغير مقدور على تطويقها إن لم تتم المسارعة إلى إحداث تغييرات جوهرية.

الصعوبات تتطلب تغييراً في البنيات الإدارية حتى تواكب هذا التحول، وهذا ما كان يعنيه خطاب الملك، الذي تحدث عن تغيير شامل في المناصب السامية والإدارية لمواكبة التحولات التي يرفضها النموذج التنموي الجديد

البعض ركّز في الآونة الأخيرة على تطور التعبيرات الاحتجاجية، وأنها دخلت مجالات الفن وعالم كرة القدم، هذان المجالان اللذان أحكمت السلطة الهيمنة عليهما، وأخرجتهما من دائرة اهتمام أي فاعل سياسي ديمقراطي، والبعض الآخر يركز أيضاً على تحول مضامين هذه التعبيرات، وأنها أضحت تخاطب الملك بشكل مباشر، بعد أن كان سقف نقدها السياسي، يتوجه للسلطة أو للحكومة أو للمنتخبين، لكن المشكلة في الحقيقة، ليست في هذه التعبيرات، وإنما في المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية التي تؤججها، وهو ما تملك حوله الدولة معطيات مهمة لا تبشر في مجموعها بخير، ولذلك اشتغلت الدولة، وبشكل مخالف لنسق الطبيعة في المغرب، على إخراج مختلف البرامج الاجتماعية مجتمعة في لحظة واحدة، وبتعليمات ملكية، وهي البرامج التي كانت تقاوم بشدة بخلفيات منع حصول كسب سياسي لهذه القوة السياسية أو تلك.
اليوم انضافت إلى هذه البرامج خيارات استراتيجية، انطلقت من قاعدة ضرورة تغيير النموذج التنموي، لأن هذا النموذج ببساطة، وإن كان يخلق النمو، فإن عائداته وثمراته لا تصل إلى المجتمع وإلى الشرائح الفقيرة ولا ينعكس على حياتهم.
ماذا تريد الدولة؟
يبدو من خلال هذه التحولات أن الدولة تتجه إلى تعديل النسق بشكل جزئي، وذلك لجهة تغيير البنيات الحزبية، لاسيما منها القريبة منها، ومحاولة خلخلة الحقل الحزبي، بإعادة الاعتبار لليسار، ولكن ضمن كتلة منسجمة، يعود إليها بعض مناضلي اليسار ممن يتمتعون بمصداقية ما، مع تغيير البنيات الحزبية الإدارية على شاكلة ما وقع في «الأصالة والمعاصرة» وذلك بغية ترسيم المسافة بين السلطة وأحزابها الإدارية، وإنهاء مقولة المعارضة الصدامية التي استحدثت لمواجهة الإسلاميين، فلا أفق لبناء معادلة سياسية جديدة في البلاد يستثمر فيها ضعف الإسلاميين في مربع السياسة سوى بأحزاب إدارية جديدة وبمهام ووظائف وجديدة، وبعودة لقوى اليسار ضمن بوتقة جديدة، كما أن سيناريوات مواجهة المؤشرات غير السارة على مستوى الوضعية الاقتصادية والاجتماعية، تقتضي التحرك على واجهتين، واجهة تغيير النخب الاقتصادية، واستبدال نخب عليا بنخب أخرى عليا لم تتكرس صورة هيمنتها على الاقتصاد، والاشتغال على تهيئة شروط تنامي نخب اقتصادية وسطى وصغيرة تضطلع بمهام التحالف مع النخب العليا الجديدة لإحداث التحول المطلوب في مجال الأعمال.
بقيت فكرة أخيرة تفسر مسعى جر البنوك لتمويل مشاريع المقاولات الصغرى والمتوسطة بسعر بـ 2 في المئة أو أقل من ذلك، فتفسيره أن الدولة تعطي رسالة للقطاع البنكي، أنه لا يمكن أن يستمر في تبني الثقافة الريعية، وتحقيق أرباح خيالية من دون أن يقدم ثمناً للاستقرار الاجتماعي، وإذا كانت البنوك في المغرب مصرة على عدم التحول إلى شريك حقيقي في الاستثمار بتبني ثقافة المخاطرة، فلا أقل من التضحية بجزء من أرباحها في سعر الفائدة، وتخفيضه إلى أقل حد ممكن.
الرسالة واضحة، الصعوبات التي تكشفها المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية، وما يمكن أن ينجم عنها من تهديد الاستقرار، لا يمكن أن تقف الدولة إزاءه مكتوفة الأيدي، وإذا كان يتطلب في ما يتطلب تغيير البنيات الحزبية وجر القطاع البنكي والنخب الاقتصادية لتحمل مسؤوليتها في الجواب الذي تعده الدولة، فإن الأمر أيضاً يتطلب تغييراً في البنيات الإدارية حتى تواكب هذا التحول، وهذا ما كان يعنيه خطاب الملك، الذي تحدث عن تغيير شامل في المناصب السامية والإدارية لمواكبة التحولات التي يرفضها النموذج التنموي الجديد.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: