التراث الشعبي المغربي رأسمال لامادي يقاوم هيمنة العولمة

ضمن الفعاليات الأساسية للمعرض الدولي للكتاب والنشر بالدار البيضاء ألقى مؤرخ المملكة المغربية والناطق الرسمي باسم القصر الملكي، عبدالحق المريني، محاضرة اختار لها موضوع التراث الشعبي المغربي كمكون حضاري للثقافة والهوية المغربية ورأسمال لامادي يحق الافتخار به، وقد عنوّن المريني موضوعه بـ”ومضات على التراث الشعبي المغربي”، لإبراز جزء من هذا المخزون الثري الذي من المستحيل أن تُلم به محاضرة واحدة.

وأوضح المريني أن الموضوع يتطلب محاضرات ومؤلفات كثيرة للإحاطة بجميع جوانبه نظرا لغناه وتعدد ألوانه وسط المجتمع المغربي، وهو تعدد يلفت الأنظار ويثير الإعجاب ويشمل كل العادات والأعراف والتقاليد والمهارات المرتبطة بالفنون اليدوية التقليدية والطب التقليدي والمواسم الخريفية والربيعية والشتوية والمهرجانات الموسيقية الشعبية والأندلسية والمجموعات الغنائية، بالإضافة إلى أطباق الأطعمة بجميع صنوفها وأنواعها.

وفي تقديمه للمحاضرة تساءل الكاتب ياسين عدنان، هل يمكن كتابة تاريخ المغرب الأدبي خارج التراث الشعبي؟ وهل يمكن القبض على مختلف مظاهره المتنوعة والمتشعبة؟ واعتبر عدنان أن السؤال تصعب الإجابة عليه، لكن المريني قادر على تجميع عناصر الإجابة، كونه مهتم بهذا الفن وأثرى الخزانة المغربية بكتابات عالية القيمة منها “مدخل إلى تاريخ المغرب الحديث من عهد الحسن الأول إلى عهد الحسن الثاني”، و”شعر الجهاد في الأدب المغربي”، و”الشاي في الأدب المغربي”، وغيرها من
المؤلفات القيمة.

وقال المريني “الثقافة الشعبية المغربية نحيا بها كما تعيش هي الأخرى بنا، وهو ما يتطلب تحمل مسؤولية الحفاظ عليها كونها جوهر هويتنا المشتركة وعماد حضارتنا المنفتحة”. ووقف المحاضر على المهارات اليدوية والفنون التقليدية والمواسم بفصولها والمهرجانات بأنواعها والمجموعات الموسيقية والطوائف الدينية مثل: “حمادشة” و”درقاوة” و”هداوة” و”جبالة” وكل ما يزخر به التراث الشعبي المغربي.

كما سرد المريني مظاهر أخرى من الثقافة التي تشمل منشدي المدائح النبوية وحلقات الذكر في الزوايا والمجموعات الموسيقية من قبيل “الدقة المراكشية” التي تعود إلى العهد السعدي، مثلها مثل “كناوة” بوصفها فنا قادما من أعماق أفريقيا، وفد من مالي وغينيا وغانا في العهد السعدي.

وتحدث المؤرخ المغربي عن الفانتازيا المشتقة من الإسبانية والاحتفالات الشعبية من قبيل عاشوراء وشعبانة والسعيلة، بالإضافة إلى الأعياد الدينية والرقصات التقليدية كـ”بوجلود” والمناسبات العائلية مثل الزواج والعقيقة والختان والحسانة الأولى، والصوم الأول في ليلة القدر وثقب الأذنين بالنسبة للإناث.

الحكايات الشعبية والأغاني الفولكلورية خزّان مهم لعادات المغاربة وطباعهم وانفعالاتهم وتفاصيل حياتهم اليومية وطرق تعاطيهم مع المحن

وتطرق المريني إلى مظاهر أخرى من التراث الشعبي المغربي من قبيل جلسات الشاي وما تعرفه من منادمة واستحضار للنكت والمستملحات وتبادل أطراف الحديث الشيق. كما بيّن كيف أن الأراجيز المغربية تفسح مساحة واسعة لهذه الطقوس الاجتماعية ولأنواع متعددة من الأطعمة والزردات، متمثلا في هذا الصدد بأراجوزة شاعر فاس عبدالسلام الأزموري.

وسرد المؤرخ عادة تراثية شعبية أخرى ترتبط بالمجتمع الفلاحي، منها “الحادوثة” وهو تعبير محرف للعجوزة، ويعني توديع السنة واستقبال أخرى في 13 يناير، وهو يحمل أسماء أخرى مثل “اسكاس”، وهو يوم التبرك بعطاء الأرض والاحتفال بالسنة الأمازيغية، وفي حال الجفاف يقام ما يسمى بـ”تاغونجة”، حيث يتم إلباس قصبة رداء امرأة وتوضع على رأسها باقة من النعناع وتسمى “عروس المطر”، ويحملها الأطفال متقدّمين موكبا يطوف المدينة طلبا للاستسقاء.

ومن المواسم الفلاحية التي فصل فيها المريني إلى المواسم التربوية، تحدث المحاضر عن “التخريجة”، وهو احتفال بحفظ الطالب لجزء من القرآن الكريم، أو لستين حزبا، حيث يكرّم إلى جانب الفقيه، وتهدى إلى الطالب في هذه المناسبة لوحة بها سور قرآنية مزخرفة من إنجاز فنانين بارعين في الخط العربي.

وأرجع المريني عادة “سلطان الطلاب” إلى ثلاثة قرون مضت بفاس ومراكش، وهي المناسبة التي يقع فيها انتخاب سلطان الطلاب الذي يهديه سلطان البلد كسوة جديدة يؤدي بها الصلاة يوم الجمعة في الجامع الكبير، ويلتقي السلطانان، ويقدّم سلطان الطلاب لائحة من طلبات الطلاب إلى سلطان البلاد الذي يستجيب لها.

وعرّج مؤرخ المملكة المغربية على فن الملحون الذي أرجع أصل الكلمة إلى التلحين لغناء الشعر المنظوم، هذا الشعر الذي تطرّق لكل المواضيع المتداولة من عشق ومديح وغربة وطبخ وتربية وأحداث وطنية، كما توقف عند الأمثال المغربية بوصفها من مظاهر هذا التراث الشعبي الثري، وهي تعبير موجز وبليغ يختزن ثمرات تجربة الشعب المغربي في الحياة التي تداولتها الألسن، كما أنها تشكل وسيلة للتهذيب والتربية الأخلاقية.

ومن المظاهر الأخرى التي سردها المريني، الإرث الشفوي كالحكايات الشعبية والخرافات وهي خزّان مهم لعادات المغاربة وطباعهم وانفعالاتهم وتفاصيل حياتهم اليومية وطرق تعاطيهم مع المحن، كما أنها تختزل الحكمة الناتجة عن التجربة وهي أنجع طريقة للإدراك، حيث يختلط فيها الواقع مع الخيال، ورغم ما يحضر فيها من كائنات خرافية فإنها غير منفصلة عن الواقع المعيش، وقد لعب الحكواتيون وأصحاب الحلقة، دورا مهما في استمرارها وتداولها، ولم يكن من باب الاعتباط أن اعتبرت اليونسكو ساحة جامع الفنا تراثا عالميا.

وختم المريني المحاضرة، قائلا “إن روافد الثقافة الشعبية المغربية بكل أنماطها وأصنافها تعبّر عن تمظهرات اقتصادية واجتماعية وثقافية ودينية وفنية، كما أنها تختزن رموزا كثيرة وإبداعات رائعة، تؤكد على هويتنا وتؤثث تاريخنا وتغني حضارتنا وتربط ماضينا بحاضرنا وتجسد الامتزاج الثقافي المغربي المتعدد الأصول، الأمازيغية والصحراوية والعربية والأندلسية والأفريقية، وهو يتطوّر بشكل مستمر لمواجهة العولمة وهيمنتها، ممّا يجعل المهتمين بالتراث والقائمين عليه يولونه عناية قصوى لأجل حمايته وصونه
من الضياع”.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: