البطالة والهجرة السرية في تراجوكوميديا مغربية

جا وجاب” كوميديا شعبية مغربية تدور أحداثها حول حياة المواطن قاسم المازوزي الذي أدى دوره محمد الجم وما عاشه وتعيشه أسرته من ظروف معيشية صعبة، لكنه يستقبل حوادث الحياة بالنكتة والنقد اللاَّذع والأمثال الشعبية والضحكات الساخرة.

والمسرحية التي عرضت على مسرح محمد الخامس بالرباط مؤخرا، من تأليف محمد الجم وإخراج عبداللطيف دشراوي وتمثيل مليكة العماري، نزهة الركراكي، سعاد خيي، كريمة خطوري، الهاشمي بنعمر، عبدالقادر بوزيد ومحمد بن البار.

الحذاء المثقوب

سبق لـ”جا وجاب” أن عرضت في أكثر من عشر مدن مغربية، علاوة على مسرح المنستير بتونس، ومسرح “أنيار سُور سان” بضواحي باريس بفرنسا، حيث بلغ عدد عروضها إلى حدّ الآن أكثر من 250 عرضا في داخل المغرب وخارجه.

و”جا وجاب” هي المسرحية السابعة لفرقة المسرح الوطني المغربي بعد ستة عروض سابقة ناجحة طوال العقد الماضي، كـ”وجوه الخير”، “قدام الربح”، “ساعة مبروكة”، “الرجل الذي”، “جار ومجرور” و”المرأة التي”.

المسرحية ناقشت قضايا الشارع، الاجتماعية، وقضية العنوسة، والبطالة، وفساد بعض أصحاب المال، والهجرة السرية

تنطلق المسرحية مع قاسم المازوزي (محمد الجم) وهو يمارس حياته البائسة، متجوّلا في شوارع طنجة، حيث يتعرض لحادثة في الطريق، وهو المواطن غير المحظوظ دائما، لكنه مع ذلك يكسب ودَّ الجمهور منذ اللحظة الأولى، إذ يشعرون بالتعاطف وهم يشاهدون تباعا على الخشبة المصادفات السيئة التي تعرض لها المازوزي في حياته.

ويصف “أمين” (عبدالقادر بوزيد) لزوجته “أمينة” (سعاد خيي) الحادثة التي وقعت للمازوزي بقوله “إن شاحنة ضخمة مرَّت بالقرب من المسكين قاسم بسرعة كبيرة، ممّا تسبب مرورها بريح قوية دفعت المسكين، وأسقطته أرضا، فاصطدم رأسه بالرصيف، ولذلك فهو مصدوم ممّا حدث له، ولا يعرف أين يقع منزله ليعود إليه، ولا من هو؟”.

وذكر لها أنه قرأ بطاقة المُصاب الشخصية عقب الحادثة، فعرف أن لقبه المازوزي، وهو ذات لقب عائلته. وذكر لزوجته، بأنه سيحضره معه إلى “الفيلا” وسيكون ضيفا عليهم لأنه من أقربائه. فتفرح أخت زوجته الأرملة “بديعة” (نزهة الركاركي) بهذا الضيف غير المتوقّع، وهي منذ مدة طويلة تبحث عن زوج وسيم يخلّصها من وحدتها ويقاسمها حياتها وبيتها وثروتها.

ونتعرف من خلال مشاهد المسرحية على أمين الذي استضاف المازوزي بعد الحادثة، فهو مدير بنك يسكن في فيلا أخت زوجته الأرملة، ويبحث عن فرصة ما ليستقل مع زوجته وابنته “سناء” بسكن خاص بهم، إذ أن حياتهم متقلبة مع شقيقة زوجته، فهم لا يعرفون متى يملي عليها مزاجها طردهم من بيتها.

استقبال حوادث الحياة بالنكتة والنقد اللاَّذع 

وبعد أن عَرّفَ أمين ضيفه بأفراد عائلته “كابن عم له” حاول أن يعرف أشياء عن حياة ضيفه وقدراته المالية، لغرض التخطيط للاستفادة من عقد صفقة معه يستطيع أن يوفّرها له في البنك الذي يعمل فيه. ومنذ البداية قال الضيف الذي كان يلفُّ رأسه بلفافة بيضاء بسبب الحادث الذي تعرّض له، عندما حاول خلع حذائه حتى لا يطأ سجّاد أرض صالون الفيلا بحذائه.

وعندما منعه أمين من فعل ذلك. قال له المازوزي ساخرا، وبلغة أهل الشارع “إن بعض الضيوف لا يجرؤون على خلع أحذيتهم عندما يزورون بيتا ما لأن جواربهم مثقوبة، أما أنا فجواربي سليمة، ولكن حذائي هو المثقوب”. وكركر ضاحكا. فخاب أمل أمين، من خلال تأكّده أن ضيفه فقير، ولا يملك مالا أو عقارا يمكن مشاركته فيه من خلال صفقة بنكية يتوّلاها بصفته مديرا لأحد البنوك المانحة للقروض.

شابلن المغرب

بعد تفكير قصير رأى أمين في ضيفه قاسم المازوزي فرصة مناسبة لعقد صفقة بتزويجه أخت زوجته العجوز بديعة، التي تنتابها بين الحين والآخر نوبات إغماء، كلما بذلت جهدا بحكم كبر سنها، وتكرار مشاركتها لابنة أختها الشابة سناء في الرقص العنيف، كلما صدحت موسيقى أو أغنية من المذياع أو سمعتها تردّد كلمات إحدى الأغنيات المغربية للتسرية عن نفسها.

كان هدف خطة أمين أن يضمن لنفسه البقاء وزوجته وابنته في الفيلا بدلا من أن تتزوّج بديعة المُسنّة شخصا غريبا لعوبا يستحوذ على عقلها وقلبها. ويوغر صدرها عليهم، فتطردهم من سكنها، خصوصا بعد أن عرف أن ضيفه المازوزي أرمل أيضا، ولا يزال يعيش على سجيته كحال أبناء الريف الطيبين. ويمكن الاطمئنان إلى أنه سليم الطوية تماما، وأفضل مرشح للزواج من بديعة، وقد أوهمه أنه ابن عمه لأنّ لهما ذات اللقب “المازوزي”.

حوارات حكايات ومفارقات ضاحكة

مسرحية “جا وجاب” من نوع الفودفيل، استخدم فيها مؤلفها محمد الجم التراث الشفهي المغربي في نصه من أشعار شعبية، وأغنيات فولكلورية، وأخرى من ستينات القرن الماضي، وأقوال من حكمة الأجداد وأمثالهم.

وناقشت المسرحية قضايا الشارع، الاجتماعية، وقضية العنوسة، والبطالة، وفساد بعض أصحاب المال، والهجرة السرية، والعلاقات الأسرية بكوميديا راقية. فنقلت حواراتها حكايات ومفارقات ضاحكة، الطرف الرئيسي فيها قاسم المازوزي وهو أحد القادمين من قاع المدينة المحملين بثقافة الشارع، ليوجه أصابع الاتّهام في كل حكاية للفاسدين ممّن يتولّون الشأن الاجتماعي والسياسي في مدينته.

وطرح مأساته الشخصية من خلال حكاية ولده الذي درس، وحصل على شهادة جامعية بالرغم من فقر عائلته، ولكن عقب تخرجه لم يجد وظيفة، فشعر بالغبن، وزيَّن له بعض السماسرة الهجرة السرية. وقبل أن يمضي إلى حتفه في تلك الهجرة أرسل لوالده رسالة من عدة كلمات قرأها قاسم المازوزي على مضيّفيه بصوت أب مفجوع، حيث قال الابن في رسالته الأخيرة “لن أعود يا أبي حتى أستطيع الإنفاق على نفسي”.

واختفى الابن بعد هذه الرسالة، كما ذكر المازوزي لمضيّفيه، وقد نجح الممثل محمد الجم في هذا المشهد نجاحا منقطع النظير، وهو يمثل دور الأب المكلوم الفؤاد، المفجوع بفقدان فلذة كبده، إذ حوّل المشهد إلى تعزية حقيقية في رثاء ابنه المفقود.

والمعروف عن الفنان المغربي المخضرم محمد الجم أنه صاحب خبرة قديمة في فن الكوميديا، ويسميه البعض بشارلي شابلن المغرب، لكن من خلال هذا المشهد استطاع أن يقدّم دراما راقية، وبذات النجاح في تقديمه لأدواره الكوميدية. ولن ينسى الجمهور تلوَّن صوته ببحة البكاء، واتسام حركاته بفقدانه لاتّزانه بفعل الحزن الشديد، ممّا نقل للجمهور بصدق فني وجع وفجيعة فقدان الأب لابنه.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: