عبدالرحمن اليوسفي.. شخصية استثنائية في المشهد المغربي

قليلون هم السياسيون الذين تجتمع حولهم أطياف مختلفة من الفاعلين والناشطين في مجالات السياسة والعلم والثقافة. ومن الاستثناءات المغربية نجد اليساري عبدالرحمن اليوسفي الذي قاد الاتحاد الاشتراكي وقاوم الاحتلال ودبر حكومة التناوب، ضمن محطات هامة من تاريخ المغرب الحديث، ترك فيها اليوسفي بصمته كشخصية مثابرة وصارمة وواقعية.

استحضر اليوسفي هذه المحطات خلال ندوة تقديم كتاب “عبدالرحمن اليوسفي: دروس للتاريخ”، للباحث والكاتب إدريس الكراوي، ضمن فعاليات المعرض الدولي للنشر والكتاب بالدار البيضاء. وحاز السياسي المغربي المخضرم، البالغ من العمر 97 سنة، على اهتمام الحضور كما كان دائما بحيويته وأسلوب خطابه.

استخلاص العبر من التاريخ

وقد عرفت قاعة شنقيط اكتظاظا كبيرا للاحتفاء بالرجل وبالكتاب الذي خصه به الكراوي، رئيس مجلس المنافسة، الذي اشتغل مستشارا في الشؤون الاجتماعية في حكومة التناوب التي ترأسها اليوسفي واستمرت من العام 1998 إلى غاية 2002.

حضر الندوة عدد من الشخصيات البارزة في عالم السياسة والاقتصاد والإعلام، وجلس بالمنصة اليوسفي وزوجته اليونانية ماري هيلين اليوسفي. وفي تقديمه للكتاب، قال إدريس الكراوي إنه يتضمن إشادة بمرحلة تاريخية دقيقة انتصرت فيها المصلحة العليا بفعل تضافر إرادتين إحداهما ملكية والثانية جسدتها الحركة الوطنية الديمقراطية مدعومة بشغف وطموح الشعب المغربي التواق إلى التغيير، مما جعل البلاد تدخل تجربة فريدة في تاريخ المغرب الحديث، وهو اختيار، رأى الكراوي أنه ذو بعد استراتيجي.

واعتبر المؤلف أن هذا الاختيار مثل إرادة شعب استطاع أن يحقق مصالحة مع تاريخه، حيث تمت معالجة ماضي انتهاكات حقوق الإنسان، واستعادة الثقة في المؤسسات وتحسن مكانة المرأة في المجتمع المغربي، وفتح ورشات إصلاحية هيكلية في مجال الاقتصاد، واستعادة المصداقية الدولية حيث وقع اختراق معاقل كانت تساند الجمهورية الوهمية وجرى سحب اعترافها بها.

شارك اليوسفي أمسيته حضور متميز من رفاق ساندوه وعملوا معه في مراحل حياته السياسية مثل النقابي نوبير الأموي والقيادي بحزب التقدم والاشتراكية إسماعيل العلوي والسياسي والقيادي اليساري بن سعيد آيت يدر، إلى جانب عبدالواحد الراضي، رئيس الاتحاد الاشتراكي السابق ورئيس الحكومة السابق إدريس جطو، ورئيس المجلس الوطني لحقوق الإنسان أمينة بوعياش وغيرهم من ممثلي مؤسسات دستورية وحكومية.

قال إدريس الكراوي إن الكتاب رسالة اعتراف وامتنان لوطني غيور ساهم في انتقال بلده من مرحلة حكم ملك إلى مرحلة وريث له بسلاسة محافظا بذلك على استقرار البلاد في ظرفية صعبة.

والمغزى من تأليف الكتاب، الذي يتوزع على 383 صفحة معززة بالصور والوثائق، حسب الكراوي، يكمن في كونه رسالة وفاء لرجل بصم تاريخ بلده بوطنيته الصادقة والتزامه السياسي الخالص وحمله لقيم نذر حياته للدفاع عنها.

وتوافقت مداخلة الكاتب نورالدين آفاية مع ما ذهب إليه الكراوي، حيث أكد أن الكتاب يوثق لحالة التداخل بين عناصر الذاكرة ويعبر عن لمسة وفاء للفاعل السياسي وما يشوب كل هذا من حرب الذاكرات ونزاع المشروعيات والتسابق على المواقع، خصوصا حين يتعلق الأمر بشخصية وطنية من عيار استثنائي مثل عبدالرحمن اليوسفي ومرحلة مثيرة من التاريخ السياسي المغربي المعاصر.

حضور ذلك الطيف المتشعب بين القانوني والدستوري والسياسي والحقوقي والاقتصادي والإعلامي للاحتفاء بالكتاب وصاحبه، هو بمثابة إجماع ضمني بصواب الفكرة الديمقراطية التي دافع عنها اليوسفي وكذلك جنوح نحو المصلحة العليا للوطن بغض النظر عن التوجه أو الأيديولوجيا. واستطاع عبدالرحمن اليوسفي في هذه اللحظة التاريخية، كما في الماضي، أن يرسخ صورة الإجماع الشعبي على فكرة واحدة تغلب المصلحة العامة والانتصار لمنطق التدبير الواقعي.

احتفاء بالكتاب

وأكد نورالدين آفاية أن الكتاب يتساءل عن ممكنات الاختيار الديمقراطي وتحصين المجتمع بتعاقدات كبرى وقيم تعلي من شأن الإنسان. واليوسفي بوصفه شخصية تملك كثافة رمزية كان يميل دوما إلى الواقعية من خلال تغليبه للممكن، كما دأب على تحديد سقف هذا الممكن ومن ثم الانخراط في فعل سياسي لا يخلو من مخاطرات، وهو ما جعله يعاني كثيرا مع النزعات المعادية لهذا التوجه الإصلاحي المتصل بمتطلبات العمل الديمقراطي من داخل حزبه وخارجه.

وقال الشاعر حسن نجمي، الذي أدار اللقاء، إن الكتاب يضاف إلى سلسلة كتب تعنى بالذاكرة السياسية المغربية وتؤرخ سيرة شخصيات تميزت بحضورها وبصمتها في تاريخ المغرب الحديث. والكتاب يقدم شهادة عن قرب لتجربة حكومة التناوب.

وبالإضافة إلى كونه شهادة على مرحلة هامة تحتاج إلى الكثير من تسليط الضوء، يمكن القول إن الكتاب صرخة أمل وإثارة للضمائر وليس مؤلفا للذاكرة من أجل الذاكرة، حسب إدريس الكراوي، بل هو من أجل استخلاص العبر والدروس في مواجهة الأخطار في ظل تجربة التناوب الثانية، التي بدأت في العام 2011 وهي تحتاج اليوم إلى أن تستمد من تجربة التناوب الأولى الدروس اللازمة.

وتمثل دور اليوسفي، خلال فترة حكومة التناوب، في إدارة الاختلافات والأفكار بهدف استنبات مقومات الفكر السياسي الحديث يحدوه طموح بناء دولة المواطنة وتوسيع مساحات القول والفكر والرأي وأسئلة الدين والسياسة والعدالة الانتقالية، مما جعل هذه الفترة تجسد منعطفا سياسيا بكل ما تحمله الكلمة من معنى. وقد سعى إلى قطع الطريق على القوى الهدامة وهو ما صبغ التجربة ببعد أخلاقي يميز كل انتقال ديمقراطي يتطلب درجة عالية من السمو.

ورأى الشاعر حسن نجمي أن الكراوي توفق في الاشتغال على تجارب هامة ومفصلية في التاريخ السياسي للمغرب، مقدما في نفس الوقت بروفايلا تفصيليا لشخصية اليوسفي ومرجعيته الفكرية واختياراته السياسية الحياتية، تلك الشخصية التي نجحت في ترسيخ مشروعيتها التاريخية والنضالية، وأسست لمرحلة مغربية مختلفة.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: