لماذا لا يجتمع المغاربيون ولو على نكبة واحدة؟
يقول هشام الجخ في قصيدته المسماة بالتأشيرة: «اتجمعنا يد الله وتفرقنا يد الفيفا». وقد يقول من يحاكي بيته الشعري الشهير تعليقا على استمرار الخلافات المغربية الجزائرية، وعجز فيروس كورونا عن التخفيف من حدتها ولو رمزيا: «اتجمعنا نكبة كورونا وتفرقنا صراعات السياسة؟» فالفيروس الرهيب، الذي بات يقض مضاجع العالم بأسره ويبث الرعب في قلوب الملايين من ساكنة الكوكب، لم يعرف بالطبع أي فارق بين تونسي وليبي، ولا عرف كذلك أي شكل من أشكال التمييز الإثني أو العنصري أو الديني أو السياسي بين شخص وشخص، بل وحّد تماما وساوى في مصائبه ونكباته بين الجزائري والمغربي والموريتاني.
وهو لم يعرف ولم يتقيد بأي ضابط من ضوابط القومية أو الجنسية أو الحدود الوطنية، فالضحايا، رغم أن معظمهم صينيون حتى الآن، استووا كلهم أمام سلاحه الفتاك كأسنان المشط، لكن تعامل الدول المغاربية الخمس مع وباء كورونا كاد يخرج الأمر عن سياقه المعلوم، ويظهره فقط، كما لو أنه مسألة كونية تعني مجرد الامتثال لتعليمات منظمة الصحة العالمية بالحرف، من دون أن يكون وبالمثل، معضلة أو مشكلا صحيا إقليميا، يقتضي قدرا من الجهود الجماعية، ويتطلب معالجة مشتركة، لا تستثني بلدا مغاربيا، بغض النظر عن حجم الخلافات والمواقف السياسية التي قد توجد بين هذا الطرف وذاك، وحتى في ظل غياب أي إعلان حتى الآن عن اصابة أي مغاربي بالفيروس. فإن لم تفلح الأفراح والمسرات في جمع المغاربة والجزائريين، وفشلت كل تلك المسيرات التي قادها بعض المغاربة نحو الحدود الجزائرية، في غمرة فوز الفريق الجزائري لكرة القدم بكأس افريقيا، ولم تحقق هدفها في فتح الحدود المغلقة منذ أكثر من عقدين، ألم يكن ممكنا أن يجتمع المغاربة والجزائريون، على ما يبدو الآن محنة إنسانية ذات أبعاد كونية، ويرسلا ولو إشارة رمزية تدل على أن وباء كورونا قد جمعهما؟ لقد تصرف الاثنان على انفراد. فانشغل المغاربة بمتابعة وجلب رعاياهم من الصين، وبالمثل فعل الجزائريون.
لكن النقطة المضيئة الوحيدة وسط ذلك كانت تلك الطائرة الجزائرية التي حطت ظهر الاثنين الماضي في مطار هواري بومدين، وعلى متنها إلى جانب رعايا جزائريين أعداد من التونسيين والليبيين والموريتانيين، تم اجلاؤهم جميعا من مدينة ووهان الصينية. لقد جسم هؤلاء وحدة المصير المغاربي، وكان وجودهم على طائرة واحدة في رحلة صعبة وطويلة ومحفوفة بقدر من المخاطر، أبلغ من كل القمم المغاربية القليلة التي عقدها الزعماء المغاربيون في زمن ولّى ومضى، ولم تخرج إلا بكم من البيانات والقرارات التي ظلت متروكة على الرفوف. فالمحنة كانت قدرا مشتركا جمع رعايا من الدول الأربع من دون سابق تخطيط، ومن دون أن يكون قد خطر ببال أي أحد منهم أنه سيسافر يوما في رحلة استثنائية بكل المقاييس مع أشقائه المغاربيين، ويتقاسم معهم ساعات من القلق والاضطراب والخوف على مصيره الشخصي. لقد حصل الامر ببساطة، وكما صرّح بذلك وزير الصحة الجزائري لصحيفة «الشروق» المحلية «لأن تونس وليبيا تفتقران إلى الإمكانيات اللازمة لنقل رعاياهما، حيث تحتاج العملية إلى طائرات تملك القدرة على التحليق لساعات طويلة في الجو»، وهذا ما يعني بالتأكيد أن المغرب كان يملك مثل تلك الطائرات لإجلاء رعاياه. لكن أليس هناك خلل منهجي في مثل ذلك المنطق؟ فإذا كان الجميع على علم بأن الاتحاد المغاربي الذي سيطفئ بعد أيام قليلة أي في السابع عشر من الشهر الجاري شمعته الحادية والثلاثين قد صار هيكلا خاويا بلا حياة، بسبب احتدام الخلافات المغربية الجزائرية، فإنه كان من أضعف الأيمان أن يبادر مسؤولوه للبحث عن صيغة ما لجمع البلدين على محاربة عدو مشترك هو كورونا والتنسيق معا لعمليات إجلاء كل المغاربيين من الصين.
فهل كان من المستحيل أن يلتقي المغربي مع الجزائري في رحلة إجلاء صحي واحدة تجمعهما بباقي المغاربيين؟ وإن كانت الصين قد بنت مستشفى في ظرف عشرة أيام لعلاج المصابين بالوباء، ألم يكن عمليا أن يوضع كل المغاربيين القادمين من الصين في مكان واحد للحجر الصحي، ويخصص لهم مشفى أو مكان واحد في بلد من البلدان الخمسة. ربما اعتبر البعض أن ذلك الأمر نوع من الطوباوية أو الشعبوية والحماسة الفارغة، أمام التمسك الشديد والمفرط لكل دولة بخصوصياتها، وما تعتبره سيادتها وولايتها المطلقة والحصرية على مواطنيها. غير أن خطوة رمزية مثل تلك، كانت ستعني الكثير لا للحكومات بل للشعوب، التي لم تعد تثق كثيرا في انتمائها الفعلي لمجال حضاري واحد، ولعلها كانت كذلك وعلى بساطتها ستعيد إلى الأذهان ماضيا واجه فيه كل المغاربيين عدوا مشتركا هو الاستعمار الغربي.
قمة المأساة، أن أحفاد المجاهدين العظام في سبيل تحرير أوطانهم من المستعمر، الذين حاربوا الغزاة والمحتلين الفرنسيين بدون أن يفرقوا بين تونسي وجزائري ومغربي، لم يعد باستطاعتهم اليوم أن يحاربوا معا فيروسا يهدد حياة البشرية كلها.
لقد فُقد الوعي المغاربي بوحدة المصير وتلاشى الإحساس بأن هناك خطرا أو عدوا مشتركا يمكن أن يهدد الجميع بلا استثناء
لقد أغرقتهم الخلافات والمماحكات السياسية، في دوامة كبرى لم يعد الخروج السريع منها يسيرا وممكنا، حتى فلسطين التي كانت تجمعهم وتوحد مواقفهم لم تعد الان كذلك. ولننظر مثلا إلى الفارق الكبير بين ما قاله الرئيس التونسي عن صفقة القرن، من انها مظلمة القرن، وما جاء في البيان الرسمي للخارجية المغربية من تقدير لجهود السلام التي تبذلها الإدارة الامريكية، ووعد بدراسة تفاصيلها بعناية فائقة، مثلما جاء في نص البيان، لندرك مدى عمق الهوة التي تفصل بلدين مغاربيين، ولوعلى المستوى الشكلي واللفظي، من قضية ظل الاثنان يرددان أنها قضيتهما المركزية. لقد فقد الوعي المغاربي بوحدة المصير وتلاشى الإحساس بأن هناك خطرا أو عدوا مشتركا يمكن أن يهدد الجميع بلا استثناء. وكانت ليبيا المثال الأخير على ذلك، حين تركها المغاربيون نهبا للأطماع وصراع الإرادات الخارجية الإقليمية والدولية، ثم حاولوا اللحاق المتأخر بركب المهتمين بها. والخطورة التي قد يمثلها مثل ذلك الوضع هي انه يكرس حالة العطالة والشلل في البحث في أي مشروع مغاربي، ويجعل الثقة في تحقيقه أو نجاحه شبه معدومة. وهكذا يستمر الجميع في الدوران في حلقة مفرغة.
ففيما تلقي الشعوب باللوم على قادتها لعجزهم ولو عن تنظيم قمة مغاربية شكلية، لا يجد هؤلاء قوة دفع شعبية ومدنية قوية ونافذة، تستطيع أن تضغط عليهم، وتجعلهم لا يجتمعون للاجتماع، بل لتحقيق جزء من طموحات وتطلعات صارت تتضاءل يوما بعد آخر ببناء بيت مغاربي مشترك. لكن إن لم تجمعهم لا اليسرة ولا الشدة فمتى سيجتمع المغاربيون إذن؟ إن ما نخشاه هو أن يصبح اجتماع البعض منهم بالاسرائيليين أيسر وأسهل ألف مرة من اجتماعهم معا حول طاولة واحدة، أو حتى على رحلة إجلاء صحي مشتركة. وإذا كان البعض يرى في كورونا عقابا إلهيا للصينيين، فأي عقاب سيطال ساعتها المغاربيين؟