في تحليل موقف المغرب من إقصائه من مؤتمر برلين

لم يكن مفاجئا صدور الموقف المغربي الغاضب من إقصائه من حضور مؤتمر برلين، فالقواعد الدبلوماسية المرعية تقتضي أن يكون حضور المغرب ضروريا بل مركزيا، فحكومة الوفاق الشرعية، هي في الأصل ثمرة اتفاق الصخيرات، الذي لعب المغرب دورا حيويا في توفير شروط إخراجه، ومجلس الأمن، استند إلى هذا الاتفاق في دعمه للحكومة الشرعية في طرابلس، لكن يبدو أن ما يحكم العلاقات الدولية، ليس هو هذه القواعد، وإنما واقعها ودرجة التأثير في مسرحها، وهو ما لم يكن في جانب المغرب.
تبرير إقصاء المغرب حسب بعض الجهات التي حضرت مؤتمر برلين، أنه بقي في منطقة الحياد، أو لأنه لا يرتبط بحدود جغرافية مع لييبا.
تأسس الموقف المغربي على الجانب المبدئي المتمثل في الحفاظ على مرجعية اتفاق الصخيرات، باعتباره الاتفاق الذي ينهي النزاع، وأن ما دونه لا يعني أكثر من إحلال الفراغ، الذي لا تستفيد منه إلا المجموعات الإرهابية، كما تأسس في الجهة العملية المقابلة، على رفض الاصطفاف والتدخل الأجنبي من أي جهة كانت، واعتبار ذلك سببا في تعقيد الأوضاع وتعريضها لمزيد من عدم الاستقرار.
لننتبه إلى أن الموقف المغربي، مع مبدئيته وحياده، لم يتخلص من بعض الغموض، إذ لم يرد تصريحه لرفض التدخل الأجنبي إلا بعد الاتفاق العسكري والأمني التركي الليبي، وهو ما فهم منه، أن الأمر لا يتعلق بحياد مطلق، بقدر ما يتعلق بحياد ظاهر، واصطفاف محتشم خفي، برزت بعض مؤشراته في الإعلان عن رفض التدخل الأجنبي غداة الإعلان عن التدخل العسكري التركي، وليس في الوقت الذي كانت فيه أطراف إقليمية برعاية فرنسية موغلة في هذا التدخل، كما ظهرت مؤشراته أيضا في إثارة قضية الاتفاق التجاري الحر مع تركيا، وتهديد وزير الصناعة والتجارة عيد الحفيظ العلمي بتمزيقه إن لم يتم مراجعته ليحفظ المصالحة المغربية، مع العلم أن خسائر المغرب من اتفاقية التجارة الحرة هي مع مختلف الدول التي أبرم معها المغرب هذا الاتفاق وليس فقط مع تركيا.
معنى ذلك، أن الحياد المغربي، وموقفه المبدئي المنحاز لمرجعية اتفاق الصخيرات تعرض لحرج الموقف الفرنسي، الذي يعيش على الجملة توترا حادا مع تركيا، ويعيش اصطفافا حديا معها في ليبيا، مما جعل الموقف المغربي يفقد جزءا كبيرا من أصالته.

إن ما حرم المغرب من استكمال دوره الحيوي في دعم الأطراف المتصارعة إلى التوصل لحل في ليبيا هو الموقف الفرنسي، والقوى الإقليمية المتحالفة معها، فالمنطق يقتضي أن تبادر هذه الأطراف إلى دعم حضور المغرب

لا نريد أن نعتبر الاتصال الهاتفي بين الملك محمد السادس والرئيس الفرنسي بمناسبة إقصاء المغرب من مؤتمر برلين مؤشرا على هذا التحليل، فمضمون هذا الاتصال هو الاحتجاج، مثله في ذلك مثل الإطلالة الإعلامية لوزير الخارجية المغربية على قناة الجزيرة للتعبير عن هذا الموقف، كما لا نريد أن نعطي أبعادا سياسية لزيارة ودية للملك محمد السادس لولي العهد الإماراتي محمد ابن زايد بإقامته بالمغرب، فالعلاقات المغربية الإماراتية تمر بمنعطف متوتر، والعوائد الملكية العرفية تميز دائما بين واجبات الضيافة أو ما يسمى مغربيا بـ«الصواب» وبين الاختلاف في تقدير مصلحة كل دولة على حدة، لكن، ثمة تقدير، يرى أن إقصاء المغرب من مؤتمر برلين يرجع بالأساس إلى عدم مواكبة دبلوماسيته بفعالية لتطورات القضية الليبية، وعدم انتباهها إلى شعور الأطراف الدولية الوازنة باستنفاد اتفاق الصخيرات لأغراضه، فالقضية لم تعد سياسية وأمنية فقط، ولا حتى استراتيجية بالتقدير الذي كانت تخطط له بعض القوى الإقليمية في المنطقة كالإمارات، ولكنها أضحت أشبه ما تكون بقضية صراعات إرادات دولية على خلفيات استراتيجية متشعبة، فيها السياسي (قضية الإسلاميين ووجودهم في مربع الحكم)، وفيها الأمني (الاستقرار والحاجة لحليف للغرب في المنطقة يضطلع هو بالهيمنة على الأجهزة الأمنية والعسكرية بليبيا) وفيها الاستراتيجي المرتبط بمصادر الطاقة والصراع المتوسطي عليها.
المعضلة أن قوة المغرب المبدئية المتمثلة في مرجعية اتفاق الصخيرات، قد تبددت بالحرج الذي يشكله التقدير المصلحي الفرنسي المتوغل في ليبيا، فقد عبر المغرب عن تحمله كلفة تضييع بعض المصالح الاستراتيجية من جراء خسارة جزء مهم من علاقته الدبلوماسية ببعض دول الخليج، لكنه لم يستطع أن يتحرر من حرج الموقف الفرنسي في المنطقة، مما جعل موقفه مشوبا بالارتباك والغموض، وما يفسر إقصاءه، تبعا لذلك، ألا أحد من الأطراف الدولية والإقليمية المتصارعة دافع عن حضوره، بما في ذلك فرنسا. لذلك، فسبب إقصاء المغرب على ما يبدو ليس هو وقوفه على أرضية الحياد، ولكن، لأن لا أحد من الأطراف رأى فائدة من حضوره، بما في ذلك فرنسا، التي تجنب المغرب الاحتكاك معها بسبب موقفها في ليبيا الناسف لموقفه، فلم يتلق أي إشارة منها مكافأة لهذا التفهم، بخلاف تركيا، التي توجه وزير خارجيتها إلى المغرب أولا، قبل الجزائر، ورشحت أخبار عن محاولة التمهيد لزيارة الرئيس التركي أردوغان، فجاء الموقف من الخارجية المغربية يدين التدخل الأجنبي في ليبيا، فتم فهم الإشارة تركيا، ولم تعمل تركيا أي مجهود لدعم حضور المغرب في مؤتمر برلين.
ملخص التحليل، أن ما حرم المغرب من استكمال دوره الحيوي في دعم الأطراف المتصارعة إلى التوصل لحل في ليبيا هو الموقف الفرنسي، والقوى الإقليمية المتحالفة معها، فالمنطق يقتضي أن تبادر هذه الأطراف إلى دعم حضور المغرب، فقد كانت تتابع الموقف المغربي وإشاراته المختلفة، وجمعه بين الوضوح والغموض المفسر لجهة هذا المحور، لكنها لم تفعل أي شيء في هذا الاتجاه.
سؤال المستقبل، وما يتعلق باستشراف دور مغربي مرتقب في القضية، يدفع للقول بأن الدور المغربي لم تنته مسوغاته بعد، فصراع الأطراف الإقليمية والدولية لن يجعل مخرجات مؤتمر برلين تأخذ بسهولة طريقها إلى التطبيق، هذا إن لم نقل بأن أطرافا إقليمية ودولية تتطلع إلى أن تفشل الاتفاقات، وأن تستثمر الزمن لتأجيل وصول القوات العسكرية التركية إلى ليبيا، وذلك من أجل حسم المعركة على الأرض، بما يسمح بتغيير قواعد اللعبة التفاوضية. ففي هذه الحالة، أي حال فشل مخرجات مؤتمر برلين، يمكن للمغرب أن يستأنف دوره، لكن بشرط أن يتحرر هذه المرة من الموقف الفرنسي، وينسج موقفه بذات المرجعية السابقة، وبذات الحياد الواضح، والقوة الاقتراحية، ففي لحظة اشتداد الأزمات، لا يصلح إلا الطرف المحايد الواضح الجدي.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: