مسجد باريس اندماج معلن وتطرف مضمر
إثارة قضية الإسلام في أوروبا، وفي فرنسا تحديدا، تنفتح على أكثر من إشكالية ومن الجهتين، من جهة الرؤية الإسلامية ومن جهة التصور الأوروبي. الإسلام في فرنسا أو الإسلام الفرنسي، تحيل على قضايا الاندماج والأسلمة، كما تؤدي إلى شيوع الإسلاموفوبيا والعنصرية. وفي كل هذه القضايا يقع على كاهل المسلمين في فرنسا دور مهم يبدأ بوعيهم بمواطنتهم الفرنسية وما تقتضيه من واجبات، وتصل إلى بيان المسافة من الأفكار المتطرفة التي وصلت شظاياها إلى أوروبا وإلى المسلمين أنفسهم.
تلعب المؤسسات الإسلامية دورا طليعيا في تعميق اندماج المسلمين في المجتمعات الأوروبية، وتمثّلها للقوانين الأوروبية ووعيها بالمواطنة، لكن بعض المؤسسات والمساجد والمراكز تمارس ازدواجية مفضوحة بمحاولة التمايز عن التيارات المتطرفة وفي الوقت نفسه تردّد أفكارا لا تعترف بالآخر وتلغيه.
بعد خمس سنوات كنائب عميد، وثمان وعشرين سنة كاملة على رأس عمادة مسجد باريس أعلن دليل بوبكر استقالته ليترك المنصب لشمس الدين حافظ معاونه منذ 20 سنة. وبغض النظر عن علاقته بالنظام الجزائري الذي يموّل هذا المسجد منذ 1992 بهدف التحكم في الجزائريين المقيمين في فرنسا، ماذا قدم دليل بوبكر للجالية المسلمة منذ تعيينه، وهل عمل على اندماجها في المجتمع الفرنسي؟
اعتاد الفرنسيون على خطاب عميد مسجد باريس دليل بوبكر المختلف، شكليا، عن خطابات الإسلاميين، واكتسب الرجل المقرب من السلطات الفرنسية منذ عقود تعاطفا من قطاع واسع من المتابعين للشأن الإسلامي في فرنسا. ومقارنة بالآخرين يبدو متسامحا وصاحب رؤية متوافقة مع قيم الجمهورية الفرنسية. ولئن انتبه البعض إلى الخطاب المزدوج لتلك المنظمات الإسلامية التي تزعم تمثيل المسلمين في فرنسا، فإن الكثيرين لم يتفطنوا إلى خطاب بوبكر الملغّم، المشرف على أقدم مسجد بفرنسا منذ عام 1992 وهو المسجد المركزي الذي يشرف على 700 مسجد بفرنسا.
اعتبرَ مسجد باريس رمز الإسلام في فرنسا وكثيرا ما صرّح دليل بوبكر وفي مناسبات عديدة أنه يريد تأسيس إسلام بألوان فرنسا، فهل يؤمن الرجل حقيقة بما يزعم؟ أم أن الأمر مجرد كلام موجه للاستهلاك الإعلامي من أجل الهروب من تهمة التطرف التي تلاحق كل العاملين في الشأن الإسلامي في فرنسا بعد اعتداءات عام 2015 الإرهابية وما تلاها؟
إذا ما بدأنا بأهم قيمة من قيم الجمهورية الفرنسية المتمثلة في مسألة “احترام الآخر” فإننا نجدها لدى بوبكر مجرّد واجهة وتمويه، مثلما هو الشأن لدى جميع الإسلاميين. ففي أكثر من مقالة له على الموقع الرسمي لمسجد باريس، نجده يزدري الديانات الأخرى ويصوّب نار حقده على اليهودية بشكل خاص. ولكننا نجده في الوقت نفسه يشتكي في الإعلام من الإسلاموفوبيا المتصاعدة. في مقال تحت عنوان “معرفة الإسلام”، لا ينتقد التعاليم المسيحية فحسب، بل يسخر منها ويصنّف بعضها في خانة الحقد والعنصرية والجشع. ويصف الحواريين بالسذاجة والجهل. وفي مقال آخر خصصه للنبي إبراهيم وصل إلى نتيجة مفادها أن التقاليد اليهودية لا يمكن أن تصدر سوى عن كذب واع ومقصود وذلك بعد أن وصف محتوى التوراة بالمزيّف والمزوّر.
المفارقة أن دليل بوبكر يكتب هذه الأفكار، ولا يملّ من الحديث في الوقت نفسه عن الحوار بين الديانات وضرورة التقاء اليهود والمسيحيين والمسلمين لنشر ثقافة التسامح في فرنسا. فهل يكون ذلك بالقول إن اليهود قد حرّفوا النصوص المقدسة قصدا؟ ألا يمثل هذا عملا تحريضيا، ولو بشكل غير مقصود، ضد مواطنيه اليهود في مناخ موبوء بالإسلاميين واليمين المتطرف؟ ولكي نحدّد هوية دليل بوبكر الحقيقية ينبغي أن نتذكر أن مجلس الديانة الإسلامية الذي يترأسه يرفض حرية الضمير والاعتقاد، وأن مسجد باريس الذي يترأسه أيضا حاول أن ينشر أفكارا معادية للديانات الأخرى غير الإسلام، وحاول منع الكاتب الشهير سلمان رشدي من دخول فرنسا عام 1996.
وفي مقالة نشرها في أسبوعية “لوبوان” الفرنسية منذ أشهر أماط دليل بوبكر اللثام عن وجهه الحقيقي حينما راح يكرّر خطاب الإخوان المسلمين الذين يحاولون إشعار الفرنسيين بالذنب وتقديم الجاليات المسلمة على أنها ضحية للعنصرية في فرنسا، في حين أنه يعلم عدم وجود أدنى تفرقة في القوانين الفرنسية بين الفرنسيين مهما كانت دياناتهم بل وحتى بين الفرنسيين والأجانب المقيمين.
وقد استعار من الإخوان كلمة “الإسلاموفوبيا” لكي يجعل كلّ من يتصدى للدعوة لتطبيق الـشريعة عنصريا يكره المسلمين، في حين أن القانون الفرنسي واضح في الأمر فكل من يحرّض على الكراهية يكون مصيره الوقوف أمام المحاكم. ويختم مقالته كاتبا “بدل أن نغذي خوفا لا عقلانيا ضد المسلمين، ألم يحن الوقت لدعم مسلمي فرنسا المدانين قبل محاكمتهم؟”.
ألم يحن الوقت ليتخلص مسلمو فرنسا من كل الإسلاميين، من قبيل مسجد باريس والإخوان المسلمين والسلفيين، الذين يعملون على فصلهم عمن يقاسمونهم المواطنة؟