خمس سنوات بعد «شارلي»: الإطار الثقافي للمجزرة

حمل مئات الآلاف شعار «أنا شارلي»، عقب المجزرة التي ارتُكبت بحق كتّاب ورسامي الجريدة الأسبوعية الفرنسية الساخرة. الشعار كان ومازال مثيرا للجدل. ولكن ما اتفق عليه جميع المتضامنين هو رفض الإرهاب الإسلاموي، وهو موقف لم يكن يحتاج مجزرة من هذا النوع لينال الإجماع، إدانة الإرهاب، سواء بأبعاده الثقافية أو العملياتية، أمر لا خلاف حوله، ولكنه لا يحيط بكل دلالات وأبعاد قضية «شارلي».
فيما وراء رفض الفعل الجرمي المباشر، أبدى كثيرون مواقف أقل صلابة، تراوحت بين التعبير عن نوع من التفهّم لـ«ردة الفعل» التي قام بها الإرهابيون «إذا شتمت أمي فعليك أن تتوقع لطمة على وجهك» حسب تعبير البابا فرنسيس. وإدانة «شارلي» نفسها بوصفها «تساهم بتكريس الصور النمطية عن المسلمين»، وفق بيان أكثر من مئتي كاتب ينتمون للفضاء الثقافي الأنكلوفوني، قاطعوا حفل تسليم الجريدة جائزة «القلم» لحرية التعبير، وهو بيان فيه تقاطعات كثيرة مع مواقف جانب مهم من «اليسار»، خاصة الهوياتي والمعادي للإمبريالية، فضلا عن إسهامات أكثر تذاكيا، مثل كتاب «من هو شارلي؟» لإيمانويل تود، الذي حاول أن يثبت أن أغلب المتضامنين مع الجريدة في فرنسا يأتون من وسط اجتماعي أبيض محافظ كاثوليكي، كان تاريخيا معاديا لقيم الثورة الفرنسية ذاتها. ربما كان الأجدى، بعد خمس سنوات على المجزرة، طرح تساؤل عن البيئة الثقافية التي جعلت الجريمة ممكنة. الهجوم على مكتب جريدة باتت هامشية منذ سنوات، تتمسك بتراث الصحافة الهجائية، والتجديف بكل سلطة، المتجذر في فرنسا منذ عصر التنوير، لم يكن سينجح بهذه الفعالية، إلا ضمن ثقافة لم تعد قادرة على احتمال التجديف، عزلت الجريدة قيميا عن محيطها، لدرجة صار من الطبيعي أن يقوم مثققون وناشطون ورجال دين «متسامحون» بأداء الجانب الأيديولوجي للفعل ذاته، الذي قام الإرهابيون في جانبه المسلح. لا نعني بـ«التجديف» هنا شكله الديني وحسب، بل أيضا التمرد على بديهيات العقائد الثقافية القويمة السائدة. فأي جانب من هذه العقائد أسس للإطار الثقافي للمجزرة؟ وهل ما زالت استعادة قضية «ِشارلي» ضرورية في أيامنا؟

حمل مئات الآلاف شعار «أنا شارلي»، عقب المجزرة التي ارتُكبت بحق كتّاب ورسامي الجريدة الأسبوعية الفرنسية الساخرة. الشعار كان ومازال مثيرا للجدل.

معضلة التسامح

«شارلي» ليست بالنسبة لكثيرين الرمز الأنسب لحرية التعبير، أسلوبها الاستفزازي زج بهم في معركة ليست معركتهم. وهذا أمر متوقع ضمن النسخة المعاصرة من التفكير الليبرالي – اليساري، ومفهومه الخاص عن «التسامح»، الذي يمتزج بمفاهيم أخرى مثل «الاعتراف» و«العدوان المصغّر».
يرسم هذا المنظور خريطة اجتماعية واضحة أكثر من اللازم، تتقاسمها جماعات هوية متجاورة، تقوم على الأغلب على أسس غير تعاقدية، أي على عوامل مثل العرق والجنس والدين، وهي هويات يولد المرء بها، بدون اختياره، ومن المفترض أن تحدد توجهاته وحساسياته، بغض النظر عن مسيرته الحياتية اللاحقة، واختياراته الواعية، ولذلك يجب احترامها ومنحها «الاعتراف». وعلى الرغم من أن هذا المنظور لا يخلو من الصحة، إذ من الصعب تجاهل المحددات غير التعاقدية في تأسيس الذات الفردية، فإن الهوس المعاصر بـ«الاحترام» و«التسامح» يمكن أن يؤدي إلى الجمود الثقافي، عن طريق الحد من الجدل والنقاش المجتمعي، بدعوى احترام «الحساسيات». دعك من أن هذا الهوس مراوغ سياسيا ومستحيل التطبيق عمليا، فالتفاعل والصراع الاجتماعي لا يمكن أن يتوقف، والجدل المستنكر، من منظور الصوابية السياسية، سيجد لنفسه قنوات جديدة، بعيدا عن المنابر التي تمثل التيار السائد. وبالتالي فإن التجميد المصطنع للصراعات على مستوى اللغة، لن يؤدي لأكثر من تفكيك الحيز العام، وتغليب لغة مسطحة، منفصلة ومتعالية عن اللغة العادية. مع دفع الجدل الاجتماعي إلى هوامش «عالم الحياة»، وهذه سمة أساسية من سمات الاستبداد، لدينا تجارب سيئة معها في العالم العربي.
سبق للأمريكية نانسي فريزر، رغم تمسّكها بمفهوم «الاعتراف»، انتقاد هذا النوع من «التسامح»، وتشبيهه بالتصور اللاهوتي الساكن. لأن تأسيس الذاتيات الفردية والجماعية لا يمكن أن يكون خلقا أحاديا حرا من قبل طرف واحد، على بقية المجتمع احترام تصوراته عن ذاته، والاعتراف بها كما هي. الجدل والصراع، وكذلك عمليات الاضطهاد ومقاومتها، تلعب دورا كبيرا في تأسيس الذات وتطورها. ودونها سيتحول الأفراد والمجموعات إلى نسخ متشابهة، منغلقة على نفسها، ومُعرّفة سلفا من قبل السلطة، رغم كل الاحتفاء المزعوم بـ«الاختلاف».
بهذا المعنى فإن «التسامح» الليبرالي المعاصر ينقلب إلى نقيضه، فهو يكبت الاختلاف الحقيقي، ويحدّ بشدة من حرية القول والتعبير. بالعودة لفريزر فإن «الاعتراف» المطلوب هو اعتراف مؤسساتي وليس هوياتيا، أي أن يُمنح جميع الأفراد حقوقا متساوية في كافة المؤسسات الاجتماعية والسياسية، بغض النظر عن تعريفهم من منظور مجموعات الهوية التي ينتمون إليها. وبهذا يصبح «الاعتراف» حقوقا منتزعة، وليس مجرد تغيير في اللغة، أو تجميدا للهوية باسم اللباقة. «شارلي» برأينا تمثل أفضل ما في تقاليد التسامح التي تعود لعصر التنوير، حين استطاعت الأدبيات الهامشية، مثل المنشورات الساخرة والفضائحية والإباحية، والمعارف غير المصادق عليها رسميا، أن تزلزل باستفزازاتها كل العقائد القويمة. ما أعطى الإطار الفكري والأيديولوجي للثورات الاجتماعية، التي أجبرت السلطات في ما بعد على التسامح الفعلي، وذلك بالضبط لأنها انتهكت التعريفات الهوياتية «الصحيحة» آنذاك، ولذلك فالتضامن مع «شارلي» قضية مرهقة للكهنوت الثقافي المعاصر.

لا أخلاقية الضحية

ترتبط مفاهيم «الاعتراف» و«التسامح» السائدة بمنطق الضحية، الذي بات حاليا أحد معايير التنافس على الامتيازات التي توفرها مؤسسات الليبرالية الجديدة. هذه المسألة قُتلت بحثا وجدلا، ولكن ما يعنينا منها هنا جانبها الأخلاقي. يفترض دور الضحية أن المجموعات المهمشة والمظلومة تتصرف أساسا بمنطق رد الفعل على ما حلّ بها تاريخيا، وبالتالي فإن ما يمكن أن ترتكبه من انتهاكات هو نتيجة مباشرة للشر الأصلي، الذي قام به من يتمتعون بالامتياز، مأخوذين كمجموعات متجانسة: المستعمرون، الذكور، البيض، المغايرون جنسيا، إلخ.
مشكلة هذا التصور، بغض النظر عن تبسيطه وعدم دقته التاريخية، أنه يجنّب «الضحية» المساءلة الأخلاقية، من خلال عملية متناقضة شديدة التعقيد: فهو أولا يسحب الأهلية بشكل غير مباشر ممن خضعوا للمظالم التاريخية، ويقدمهم بشكل دوني، بوصفهم مجموعات لا يمكن أن تنطبق عليها المعايير نفسها، التي يُحاسب بها البقية، وتجعلهم بحاجة دائمة لرعاية وتفهّم خاصين من الفئات الأكثر حظا، ما يرسّخ ثنائية مهمش/صاحب امتياز. من ناحية ثانية يصبح هذا الموقع الدوني الطريق الوحيد لتحصيل ما يفترض أنها حقوق عامة يجب أن ينالها الجميع. هكذا «يُمَكِّن» المنظور الليبرالي المعاصر الجميع، بدون أن يغيّر في الوقت نفسه شيئا في هرمية السلطة والنفوذ القائمة. ربما كانت الخطوة الأولى لتعافي الضحية من جراحها التاريخية هي تخليها عن دور الضحية، وهذا ما لا يريده على ما يبدو من تحدثوا عن مأساة الضواحي الفرنسية، التي خرج منها مرتكبو المجزرة.

عرفت المجتمعات في العصور الوسطى تنوعا في الهويات الدينية والعرقية، أكثر مما سمحت به الدولة الحديثة، هذه حقيقة تاريخية يصعب دحضها.

هيراركية التنوع

عرفت المجتمعات في العصور الوسطى تنوعا في الهويات الدينية والعرقية، أكثر مما سمحت به الدولة الحديثة، هذه حقيقة تاريخية يصعب دحضها. ولكن هذا «التنوع» تلازم مع تراتبية هرمية للمجموعات الدينية والعرقية المتجاورة. فالتجاور هنا لا يعني المساواة، بل توزيعا غير متسق للأدوار والامتيازات، تحت سلطة جماعة مهيمنة معينة. وهو ما سماه عالم الاجتماع الألماني نيكلاس لومان «التمايز الفئوي» (أو «الطبقي»، بالمعنى قبل الحديث للطبقية)، في مقابل المجتمعات الحديثة ذات «التمايز الوظيفي»، حيث توجد أنظمة اجتماعية مستقلة وظيفيا، تشتغل عبر برامج وأكواد خاصة، غير متعلّقة بجماعات معينة، ويمكن للجميع نظريا الاندماج فيها.
يُظهر «التنوع» الليبرالي المعاصر ميلا قروسطيا، فتوسم كل جماعة، من خلال «التمييز الإيجابي» وسياسات الهوية، بخصائص معينة، ويتم تطويع الأنظمة الاجتماعية، مثل التعليم والفن والسياسة، وأحيانا القانون، لتتناسب مع هذه الخصائص. الخاسر الأكبر من هذه العملية، هم الأفراد الذين يحرمون من إمكانية تطور أكثر توازنا، باستقلال عن السمات المزعومة لمجموعاتهم. وربما يكون هذا هو أحد أهم معاني «الاغتراب» في عصرنا. فالمجتمعات المنتجة لشروط حياتها، بما فيها الثقافة والهوية، ضمن تفاعلات ديناميكية مفتوحة، تصبح مستلبة سياسيا وأيديولوجيا بهويات جامدة محددة سلفا.
نشهد اليوم، لحسن الحظ، عودة القضايا الضرورية لتجاوز الاغتراب، مثل إعادة توزيع الثروة ووسائل إنتاج الحياة، وذلك بفضل سلسلة من الاحتجاجات الاجتماعية حول العالم. ضمن هذا الظرف تصبح استعادة «شارلي» برأينا مهمة أكثر من أي وقت مضى. فالتقليد الثقافي الذي تنتمي إليه، يذكّرنا بأننا أعضاء بالغون وناضجون في مجتمعات حيوية، قادرون على الصراع والجدل وممارسة النقد وتقبّل السخرية، ولسنا قُصّرا ننتظر «التمكين». وربما كان الدفاع عن هذا التقليد التنويري من أكثر القضايا الثقافية والسياسية أهمية في عصرنا.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: