الجنرال توفيق ذراع خفية للحراك الجزائري فجّرته دون أن تقصد

تلقى مكالمة عبر هاتف خاص موضوع في زواية خفية من مكتبه. لم يرن منذ فترة طويلة بعد بدء الحصار الذي ينهش وجوده، وأخطبوط الخناق الذي يلتف حول رقبته. رفع السماعة بقلق واضطراب. أومأ فقط برأسه دون أن ينطق بكلمة. لم تستغرق المكاملة سوى دقائق معدودة. كان الصوت الآتي من الجهة الأخرى ثقيلا وقاطعا “لقد أصدر الرئيس أمرا بإنهاء مهامك وإحالتك على التقاعد”.

كان ذلك في سنة 2015. وضع السماعة. نادى حاجب مكتبه وهو ضابط برتبة رائد. أمره بتحضير نخبة حراسه الأشداء القابعين غير بعيد عن مكتبه الواقع في بناية منفصلة تقع ظهر المقر الكبير لوزارة الدفاع، وهو مبنى من 5 طوابق مهيب وموحش، خافت ولا تدب فيه إلا القليل من الحركة، لا يقترب منه إلا العاملون فيه من ضباط الصف العالي، مبنى حوى أكثر الأسرار حساسية والقرارات الخاصة جدا، والتعليمات المرمزة، والأوامر الحاسمة للدولة الجزائرية.

خطط منه بنفسه للانقلابات البيضاء والمؤامرات والدسائس التي تناسلت في الظلام والظلال، حاكها بالكثير من الإشارات الصامتة والسكون والدهاء. قبع فيه أكثر من عشرين سنة، أصبح كالثغور يوجه منه كتائبه لشن حروبه الصغيرة القاتلة والمزلزلة، يحيط به مستشاروه ذوو الرتب الرفيعة، يرفعون إليه تقارير ملخصة ودقيقة، قادمة وسيالة من كل مكان حتى ولو كان من خرم إبرة. كل يوم يوضع على مكتبه ملف أسود. لا أرقام فيه، ولا علامات، لاشيء يوحي بثقله ولا بقيمته العالية والخطيرة، بعض الجمل العادية بالفرنسية، ومعها بعض الرموز، ولكنها حسب العرف المخابراتي مشفرة لا يعرف مفاتيح تفكيكها إلا هو وأضيق دائرة من محيطه، تقارير ما حدث ويحدث وسيحدث من همس في الأمكنة القصية والأبواب المغلقة والسراديب العميقة للحكم، يوفرها له 21 ضابطا ساميا موزعين بين ألوية  وعمداء، كلّ حسب تخصصه.

كانت تلك آخر مرة سيرى فيها الجنرال توفيق مكتبه. لم يأخذ معه سوى علبة السيجار الفاخرة من النوع الكوبي ومحفظة صغيرة بحجم اليد. ألقى نظرة أخيرة على كرسيه الدوار والهواتف العديدة. أمعن في الهاتف اللعين الذي بشره بنهاية حقبة طويلة وعريضة ومعتمة ومتفشية في النظام كان النافذ فيها والمتسلط والجبار والقوي و”ربا للجزائر”، كما كان البعض يسميه، قال كلاما بالفرنسية رن في آذان من كان معه في تلك الساعة. حاشيته القريبة من الذين اصطفوا لتوديعه. قاله بلهجة متوعدة “سيكون موعدنا سنة 2019، تذكروا ذلك جيدا وليسمعها من هو هناك متخف خلف الستائر الغليظة والجدران”. ثم غادر البناية إلى الأبد. ركب سيارته ترافقه ثلاث سيارات أخرى مصفحة كانت ترتجف على غير عادتها. هل كان ذلك من هول السرعة أو من هول المصير؟

كلمات غامضة

إرث الجنرال توفيق يبدو كدولة داخل دولة، ظل يحميها ويتستر عليها، ويغدق عليها من بنوك الدولة

عندما تلفظ محمد لمين مدين المعروف بالجنرال توفيق المولود سنة 1939 في قنزات بولاية سطيف، بتلك الكلمات كان يعي جيدا ما يقوله وما سيفعله، ظهرت نتائج ما نطق به آنذاك بعد 4 سنوات عندما اهتز الشارع في 22 فبراير على وقع رفض لا رجعة عنه للعهدة الخامسة للرئيس عبدالعزيز بوتفليقة، وهي نتائج كانت تعرفها جيدا المؤسسة العسكرية، تعرف ملامحها القديمة، ظاهرها وباطنها، وخطوط تحركاتها، بل راقبت جمهرة النخب السرية داخل الجيش الوطني الشعبي وبعد أن تلقت الضوء الأخضر من الفريق الراحل قايد صالح، وتتبعت كل ما يقوم به ويفعله وما يخطط له منذ سنة 2004، توفرت المعلومات غزيرة وخطيرة ووضعت لدى قايد صالح، لم يتدخل حينها التزاما منه بالصلاحيات الممنوحة له في الدستور، وبسبب العلاقة المتينة التي كانت تربط الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة بالجنرال توفيق، ولم يكن يراجع الرئيس في كل ما يفعله هذا الأخير. وقد بقيت هذه المعلومات محفوظة في الكتمان والسرية وتكثفت وزادت بعد إنهاء مهامه إلى غاية وضعه في السجن، وهي معلومات بنيت على تحريات معمقة ووقائع دقيقة أفضت إلى محاكمته وحبسه لمدة بــ15 سنة نافذة.

بدأ يحدس صرير الآلة الماكرة للدهاء والحيلة تحتك حوله بصمت وبطء لعزله. فقد انتزعت من مسؤوليته العديد من المديريات الاستراتجية الهامة والتابعة لجهاز المخابرات، وأنهيت مهام العديد من الألوية والعمداء والصقور الذين كانوا تحت يديه وبين أعينه، وفي خطوة هامة حُل مركز الاتصال والبث التابع له، وهو مركز خطير ومثير للجدل واللغط خاصة عندما هز الإرهاب العنيف الدموي الجزائر، تعاظم وتفاقم دوره في عهدة لخضر بوزيد المعروف بالكولونيل فوزي، حيث عمد إلى شراء أرواح وعقول ومواقف مدراء وسائل الإعلام الخاصة منها مقابل امتيازات مادية كبيرة كان يوزعها من ريع الإشهار  الرسمي والخاص، أحيل الكولونيل فوزي على التقاعد من طرف بوتفليقة وهو على  فراش التعافي في باريس، بعد أن توصل بمعلومات عن تجيش الإعلام وصدور تعليمات صارمة لمباشرة حملة مسبقة عن قرب نهاية الرئيس وجماعته.

الخيانة

مشروع عودة الجنرال توفيق، حسبما خطط، يرتبط بحراك ما ضد مراكز القوى، لكنه نسي أنه في المقام الأول عسكري خاضع لقواعد مختلفة

تقلصت الاتصالات بالجنرال توفيق من طرف مسؤوليه في السلم الإداري وحتى من طرف معاونيه، ولم يعد هناك خط مباشر يصله برئاسة الجمهورية. حتى الصالة الرياضية الخاصة بالضباط الكبار التي كان يمارس فيها هواياته أغلقت في وجهه، وامتنع العديد من الوزراء بأوامر من اللعب معه لعبته المفضلة كرة القدم.

وفي لحظة غضب وذهول وتصدع اتصل بالجنرال بشير طرطاق ذراعه اليمنى في جهاز المخابرات وغريمه العنيد، وقال له “ماذا يحدث لنا؟”. طبعا لم يكن الداهية طرطاق ببعيد عمّا يحدث لرئيسه فهو من أعد ملفا سريا وألقاه بين يدي بوتفليقة في مستشفى “فال دوغاراس” الفرنسي، أين كان يتلقى العلاج إثر جلطة دماغية وهو الحدث العاصف الذي زعزع السلطة وقضّ مضجع السكون الذي سرى على تخوم الدولة، يشير فيه إلى تحركات مريبة يقوم بها الجنرال توفيق، ينسج عبرها مع شركائه الأوفياء من جنرالات متنفذين وساسة ورجال أعمال ومنظمات وإعلام، خيوط سيناريوهات محتملة لوجوه أو وجه يكون الأجدر لوراثة الرئيس المريض، بناها على أساس تقارير تحمل طابع السرية القصوى قيل إن المخابرات الفرنسية بحكم علاقته المتشعبة معها، والتي متنها خلال كل فترة سيادته على جهاز المخابرات خاصة في سنوات الدم والإرهاب، هي من زودته بها، وتُنبئ عن خطورة الحالة الصحية للرئيس وبأنه لا يمكن أن يستمر في الحكم، وهو ما أقنع الجنرال توفيق نهائيا بضرورة الاستعجال، والعمل بسرعة قبل فوات الأوان. وقبل أن تنفلت الأمور من بين يديه في أهم مرتكزات قوته وسطوته ألا وهي تعيين شخص يكون طوع بنانه وإشاراته، فهو يعرف أدق تفاصيل النظام والدولة والعسكر والرجال.

كل هذا لم يجعل منه كما في سابق عهده العتيق وحده المسيطر والنافذ والقوي وصاحب الأمر والنهي، بل ظهر على المسرح الدرامي للجزائر، شخص آخر لا يقـل خطورة عنه اسمه السعيد بوتفليقة الأخ والمستشار الخاص للرئيس، استطاع بذكائه الوقاد، وتمكنه اللامع من النفاذ إلى قلب النظام الخفي والعلني منه، مستوعبا خفايا اللعبة التي تدار في العمق، خاصة تلك التي بين أصابع الجنرالات، هنا وهناك، في أقصى الزوايا أو في أشدها غورا، سبر الأبعاد والنوايا والرجال والمصالح، وعرف كيف يؤسس لنفسه هالة، وشخصية ماكرة ومكتظة بأدوار حقيقية والتي قيل إنه أخذها عنوة في غياب أخيه المترنح بين الغياب والمرض والوهن، يدور في فلكه الكل، وينتظرونه في المنعطفات، عاكس الوقت لصالحه، وأنشأ حوله دائرة ضيقة من العسكريين ومن رجال الأعمال الأقوياء، وأسبغ عليهم الرعاية العالية والتغطية المستمرة التي تتظلـل مرات بالتلفون وتطبع بخواتم الرئاسة مرات أخرى.

سيد الشبكات المعقدة

الفترة التي تفصل ما بين إقالته وانطلاق الحراك الجزائري، كانت فترة عمل حثيث للجنرال توفيق

لما دنت ساعة نهايته التراجيدية مع تواتر المعلومات عمّا قام به في غياب الرئيس، طالب بلقاء هذا الأخير فور عودته، شرح المؤامرات التي اشتدت قسوتها عليه، وقوضت قوته، وأضعفت مركزه، وأشار مباشرة إلى افتراءات، وما قال إنها أكاذيب قد دبرها بليل غريمه طرطاق. أنصت الرئيس ومن كان معه إلى حواره على مضض، وبدا في تلك اللحظة شخصية أخرى متعبة وواهنة، بعيدة تماما عن الصورة التي دأبت الدعاية الجهنمية على تسريبها له هنا وهناك طيلة أكثر من 20 سنة، خرج من اللقاء وقد اعتقد أنه أقنع الرئيس ببراءته التامة، وغنم غنيمة وحيدة وهي إبعاد طرطاق من إدارة الأمن الداخلي للمخابرات سنة 2013 غير أن الرئيس أعاد تعيينه في رئاسة الجمهورية منسقا لكافة مصالح الأمن سنة 2014 في خطوة قيل إنها الضربة القاصمة التي ستفاقم من عزلة توفيق وتجرده من كافة الصلاحيات الواسعة التي كانت إلى وقت قريب له وحده لا شريك له فيها.

في ظرف سنوات بنى الجنرال توفيق محيطا واسعا من شبكات شديدة التعقيد متشابكة ومتداخلة. دولة داخل دولة، ظل يحميها ويتستر عليها، ويغدق عليها من بنوك الدولة، ويقوي مركزها ومنزلتها؛ أرتال من الرجال والنساء في الأحزاب، علمانية أو إسلامية، وحتى المجهرية منها كانت تدين له وترقب إشاراته، في النقابات من مختلف القطاعات، في الإعلام العمومي والخاص، المكتوب أو المسموع، داخل الزوايا والجامعات والمعاهد، حتى أنك ستجد في كل وزارة عقيدا ينتمي إلى جهاز المخابرات المعروف اختصارا بالــ”دي.أر.س” لا تمر بين عينيه أيّ شاردة أو واردة إلا ويعلمها ويطلع عليها هو قبل أيّ كان ولو كان الوزير نفسه.

بعد إقالته بقي الجنرال توفيق يتابع الأحداث، ويشحذ شبكاته الواسعة التي تمددت وتفرعت وتفرعنت، فشا نفوذها في كل موقع وحزب ومنظمة وهيئات ونقابات وغيرها، جنّد الغاضبين فيها والتي لم تستفد من ريع النفط وطفرات النعيم الذي كان يهمي على الجزائر.

كان يلقي باللائمة على الرئيس وعلى محيطه قائلا إنهم استحوذوا على مقدرات البلد وتركوا الشعب يقتات من الفتات، يستقبل كل جمعة الوفود الموثوقة لديه في مكتبه، كان ينصح بإثارة القلاقل والصخب والغبار في الندوات الصحافية لبعض رؤساء الأحزاب الأوفياء له؛ لويزة حنون التروتسكية أو جاب الله الإسلامي أو سعيد سعدي الليبرالي، أو يعطي الرأي في ما يحدث لتنقله على لسانه بعض الشخصيات العامة التي تزوره في بيته كالإخواني حسان لعريبي أو بعض رجال القانون كفاروق قسنطيني أو ميلود إبراهيمي، بل كان يلتقي رؤساء حكومات سابقين مثل عبد المالك سلال، ويستمع لشكواهم وتأففهم من تدخل السعيد بوتفليقة في مهامهم، وظل بعض الوزراء كالوزير المسجون حاليا عمار غول حريصا على علاقته المباشرة معه والذي أثبتت وقائع القضايا التي رفعت ضده بتكفله الكامل بمصاريف الترفيه والراحة والرياضة التي كان يمارسها الجنرال توفيق، بالإضافة إلى تواصله الدائم المفتوح على كل الأسرار مع جنرالات متقاعدين خاصة الجنرال الهارب من العدالة خالد نزار، ووصل الأمر إلى مدرجات الملاعب الساخطة والمنذرة بالانفجار، حيث استثمرتها شبكاته وأججتها بشكل لافت بالأغاني المتمردة والغاضبة التي كانت تصدح عاليا وبقوة خاصة لما يحضر الرسميون والسلطات العليا للبلاد مباريات نهائيات كأس الجمهورية، حيث كانوا يسمعون الويل والثبور ووابلا من الشتائم والكلام البذيء من أفواه ساطعة بالتذمر والقنوط.

انهيار الأسطورة

في 22 فبراير تداعت هذه الشبكات وتشظت في الشوارع وتاهت، استحكمت فيه، وزلزلت أراضيه وسماواته، فاق الأمر ما توقعه الجنرال توفيق أو ما خطط له، كان في رأسه الكثير؛ الخلود، الانتقام، تصفية حسابات، الحنين للتسلط، الخوف على الوطن، صناعة التاريخ أو وهم صناعة التاريخ، رؤية اسمه منقوشا على جدران العظماء، شتان فقد فات الأوان على تلك الأحلام الخرافية التي نحتها لنفسه.

ترى هل فكر في ساعة النهاية؟ كان يقرأ شتوبريان المغامر والكاتب المفضل لديه، عراب نابليون وصديقه الحميم، تخيل أنه سيعيش نفس مغامراته وسيكون أسطورة خالدة بعد مماته. هذه كانت بداية مشروع الثاني، عندما يخرج من السرداب، ولكن في غمرة هذا الجنون المتعاظم لغواية الزعامة والتسلط نسي أنه في المقام الأول عسكري بقواعد واضحة وعقيدة واضحة، ونسي أن صروف التاريخ مثلما تصنع أقدارا غير متوقعة تصنع أيضا نهايات مدوية.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: