عبدالله العروي: الأمية الرقمية قد تكون أسوأ من الأمية الحَرفية

انتظم في جامعة محمد الخامس، مؤخرا، الدرس الافتتاحي لكرسي عبدالله العروي للترجمة والتأويل الذي أقيم بالتعاون ما بين الجامعة ومعهد العالم العربي بباريس. “أخبارنا الجالية” رصدت مجريات الدرس الافتتاحي الذي قدم فيه العروي مداخلة هامة بحضور جمهور غفير.

في بداية الدرس الافتتاحي لكرسي عبدالله العروي الذي انعقد مؤخرا في كلية الآداب والعلوم الإنسانية، قال جمال الدين الهاني، عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، “إننا أمام مدرسة فكرية بكل المقاييس العلمية أنتجت باحثين وأطرا من المستوى الرفيع”.

وعلى هذا الأساس فالإعلان عن كرسي العروي، كما أورد الهاني، في كلمته التقديمية، ليس مناسبة رمزية فقط للاعتراف بحق المثقفين على أوطانهم وإنما كذلك تفعيلا لثقافة الوفاء ولقيم الاعتراف تجاه من خدم قضايا التنمية والحداثة والتنوير.

وعليه فطموح الجامعة والمعهد العربي أن يمثل هذا الكرسي منارة علمية للتعبير عن الامتداد الفكري لمدرسة عبدالله العروي ولمشروعه الفكري.

من جهته أكد معجب الزهراني مدير معهد العالم العربي بباريس، في مداخلته أن تكريم هذا الهرم المغربي، كان بمثابة التحدي، والسبب هو الحضور الكمي والنوعي الإعلامي والثقافي وهو دليل على مركزية فكر العروي وحضوره والأفق المعرفي الذي يمثله وهو أفق الحداثة والمستقبل.

الثقافة والتدوين

معجب الزهراني: فكر العروي وحضوره والأفق المعرفي الذي يمثله وهو أفق الحداثة والمستقبل

بدأ عبدالله العروي مداخلته قائلا “الواقع إن الكرسي الذي نحتفل اليوم بتدشينه، هو بالأساس مجال للتباحث والتدارس ومناقشة مفاهيم وإشكالات ارتبطت باسمي في السنوات الأخيرة، وفضاء يوفر المراجع والوثائق والمستندات التي تساعد على تحديد وتوضيح وتقييم تحليلات ونظريات تقدمت بها في ظروفها وحدودها”. موضحا أن التحليلات والاجتهادات ترتبط بالتاريخ وبالتطور ضد الجمود، وبالتقدم ضد التخلف، والاستمرارية ضد القطيعة، وبالعقلانية نقيضا للاعقلانية، بالاستقلال ضد التبعية، باللغة واللهجة، بالدولة ضد الفوضى، وبالثقافة ضد الفلكلور، إلى غير ذلك.

الإشكاليات الفلسفية واللغوية والتاريخية والسياسية والثقافية التي تناولها العروي بمنهجية نقدية ومقاربة فلسفية مثل إشكالية الدولة والمجتمع وطبيعة العلاقة بين الدولة والدين والعلمانية ونوعية العلاقة بين الذات والآخر، لا تزال في حاجة إلى  تعميق النقاش والبحث الفلسفي والمطارحات الفكرية حولها، وهنا يؤكد العروي في بداية حديثه أن أفكاره خلافية ولم تكن محل إجماع وتوافق، متسائلا هل من حق هاتين المؤسستين الإقدام على هذه الخطوة.

وأثنى العروي على ابن خلدون لأنه أولى أهمية كبرى لما سماه عملية التدوين أي نقل الثقافة الشفوية إلى ثقافة مكتوبة فشيّد صرح علم العمران على هذه النقطة بالذات، كما ذهب إلى أن تأخرنا يعود إلى أننا وقفنا عند هذا الحد ظنا منا ألا ثورة بعد ثورة التدوين فلم ننتبه إلى ما حصل في أوروبا أواسط القرن الخامس عشر، باختراع الطباعة التي كانت بمثابة ثورة تدوينية ثانية.

طموح الجامعة والمعهد العربي أن يمثل الكرسي منارة علمية للتعبير عن الامتداد الفكري لمدرسة العروي ومشروعه الفكري

كما أشاد بصاحب “المقدمة”، في مقام آخر يتعلق بالجانب الواقعي البراغماتي من فكره مقارنة بما أسماه طوباوية الفقهاء والمتصوفة، بينما نحن لا نتوفر لحد الساعة على حاسة تمكننا من التمييز التلقائي بين المعقول والموهوم بل في حالات كثيرة أصبحنا نفضل الوهم ونتعلق به. إذن فأي فائدة للواقعية التي ما فتئت تدعونا إليها في الفكر والسلوك كما في التعبير والإبداع.

وهنا أشار العروي إلى أن هدف الكرسي ليس نشر أيديولوجيا بعينها، بل هو تدارس مسائل راهنة ومتجددة، منها أن الأمية الرقمية قد تكون أسوأ من الأمية الحرفية، متسائلا ما الفرق بين الحالتين، هل محو الأمية الرقمية يعفي من محو الثانية أم بالعكس محو الأمية الحرفية شرط لتجاوز الأمية الرقمية. الجواب ليس سهلا وغير واضح ولا يكفي فيه استشارة المتخصصين.

واعترف أنه في عالم اليوم حيث تعود بقوة الثقافة الشفوية وحيث يمر الكتاب بأزمة خانقة، كرستها الثورة المعلوماتية الرقمية التي ظهرت في فترة لاحقة زمنيا عن ثورة الطباعة لكنها جاءت معاكسة لها وقضت على الكثير من نتائجها فاختفت بذلك الكثير من العراقيل والعوائق التي أطلت فيها الكلام.

الترجمة والتأويل

هدف الكرسي هو تدارس مسائل راهنة ومتجددة

كان تشديده على أهمية النقل والترجمة كبيرا وشكّل مساحة واسعة من محاضرته، عندما أكد قائلا “لقد مارست الترجمة وأعرف مكامنها ومزالقها التي يحرص المترجم على ألا يقحم ذاته فيها، وأن يظل وفيا قدر المستطاع لأسلوب المؤلف، فيؤدي المعنى كما جاء في النص”. مستدركا “عندما أقوم بترجمة نص كتبته أشعر بما لا يشعر به غيري إذ أستعيد في الغالب الفكرة التي أردت التعبير عنها بالفرنسية ثم أحاول أن أعبر عنها هذه المرة بالعربية فأرى بوضوح أن العبارتين تختلفان”.

وكمثال على صعوبة الترجمة أورد العروي مفردة “عالم” إذا أردنا أن ننقله إلى لغة أخرى لابد من الغوص في التاريخ الثقافي الإسلامي والبحث عن نشأة المصطلح، حيث أنه بالعودة إلى جذور المسألة لم تكن التسمية متاحة للجميع بل لمن كان له اطلاع واسع في ميادين شتى، فكثير من العلماء لا يعترفون بالغزالي لأنه لم يكن يتقن علم الحديث باعترافه هو، وكذلك ابن خلدون لم يعتبر في الشرق عالما مقارنة بان حجر مثلا. فالعالم في الاستعمال القديم يدقق في الجزئيات لكن لأغراض فقهية مضبوطة.

إذن حسب تطور المصطلح تساءل العروي هل مفردة raison تقابل فعلا  كلمة “عقل” وهل tradition تقابل مفردة “تقليد”، بالمقابل وفي اللسان العربي هل كلمة عمران تقابل culture et civilisation.

ووضّح العروي فكرته بأن نقل مثل هذه المفردات الدالة على مفاهيم مجردة مرتبطة بالتطور الحضاري الخاص بكل ثقافة، والمرتبط بدوره بتطور مجتمع معين يقتضي دائما قدرا من التأويل، فقبل الترجمة يوجد تأويل للمعنى وهذا أمر اكتشف منذ زمن قديم لما أراد الرومان ترجمة الفكر اليوناني وجدوا صعوبة كبرى، فاللغة اللاتينية لم توافق بالضرورة وبشكل حاسم المفاهيم التي تعبر عنها الألفاظ اليونانية.

كرسي الترجمة والتأويل

كل ترجمة هي تأويل ولا أحد يملك من البدء التأويل الصحيح قطعا، هكذا تحدث عبدالله العروي، وبما أن التفكير ينبني على تصور واستحضار يكفي أن نرتكب ولو خطأ بسيط لنتيه في سجال عقيم لا حد له. لابد حينئذ من العودة إلى الأصل بإعادة النظر في الترجمة باعتماد تأويل جديد بما أن الترجمة تأويل فردي أو جماعي فلا مفر من أن تكون الترجمة عملية متواصلة متجددة في التفكير والتأمل والتمعن والانتقال من مجال معنوي إلى مجال أعلى أو أسفل وأعم أو أخص وأشمل أو أدق.

وكمثال يورده المفكر المغربي، لنتأمل آفة الترجمة الخاطئة المرتبكة في حالتين لمفهوم laïcité الذي تم تعريبه في البداية بلفظ لادينية لأسباب ظرفية، فماذا كان سيحصل لو كان المعرّب آنذاك على اطلاع بتاريخ المفهوم في أوروبا المسيحية، أو لو أنه انطلق من الإنجليزية عوض الفرنسية وعرب لفظ siculo بمصطلح دنيوي، ما كان المفهوم لينفصل عن اللادين ويتخذ النقاش حول المسألة مسارا آخر.

يحاول عبدالله العروي في درسه الافتتاحي، تفسير الغاية من حديثه فهو يقول ما يقوله ليس لإثبات أن كل شيء على ما يرام في نظامنا التربوي والثقافي، بل العكس، فقد كان ولازال يدعو إلى إصلاح شامل في هذا المجال خاصة اللغة، لكن هذا لا يمنعه، كما قال، من التنبيه إلى أن النقاش قد حاد عن الطريق السوي لأنه انطلق من سوء تأويل لمفهوم عبر ترجمة غير دقيقة.

وبما أن التفكير تأويل فهو إذن ترجمة حسب فهم المفكر المغربي العروي، حتى في نطاق اللغة الواحدة، حيث لا توجد أداة لغوية لا يتواجد فيها القديم والدخيل، المشتق والمستعار، الجامد والمتحرك “لا ننفك نترجم عندما نناجي أنفسنا ونحاور غيرنا ولا ننفك نترجم بشكل أوضح وأدوم عندما نتأمل ونتمعن ونفكر. فلا تفكير جديا وعميقا دون تأويل ودون ترجمة”.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: