الخمار وسيلة انتحار جديدة بين الشابات في الجزائر
دفع تنامي ظاهرة الانتحار في أوساط المجتمع الجزائري وخاصة في فئة الشباب والمراهقين، المختصين إلى دق أجراس الإنذار ودعوة المؤسسات الرسمية والمختصة وفعاليات المجتمع المدني، إلى التكفل بالظاهرة المتفاقمة وتطويق العوامل الاجتماعية والنفسية والاقتصادية، التي باتت عصية على التحمل والتكيف وتدفع هؤلاء إلى وضع حد لحياتهم.
لم يقف الوازع الديني والأخلاقي حائلا بين الشباب والمراهقين وبين اتخاذ قرار الهروب من وضعهم الراهن، ويعتقد بعض الشباب المهمشين في المجتمع الجزائري والذين يعانون ضغوطا نفسية ووضعيات اجتماعية واقتصادية صعبة أن الهروب من وضعهم المعيشي ممكن عبر الهجرة غير الشرعية أو الارتماء في أحضان المخدرات أو العنف وغيرها وهي تشكل بنظرهم حلا أو ملاذا.
ويتجه البعض الآخر إلى اعتبار وضع حد للحياة هو الحل المثالي بعد أن سيطر عليهم اليأس من مستقبل أفضل، ولكن هذه الفئة الأخيرة من متخذي الانتحار حلا لوضع حد للمعاناة في حياتهم تبدو في زيادة عددية، وهو ما يثير تساؤلات المختصين حول الدوافع العميقة من أجل البحث عن حلول لإنقاذ رجال ونساء المستقبل.
مؤشر انتحار الشباب في ارتفاع
أفاد تقرير حقوقي صدر مؤخرا في الجزائر بأن مؤشر حالات الانتحار يتجه نحو الأعلى بعد إحصاء معدل سنوي يفوق الـ1100 حالة، أغلبها من الشباب والمراهقين، ومن الجنس الذكوري تحديدا، فضلا عن لجوء أطفال في سن الدراسة إلى معاقبة الذات بقتلها، بسبب العجز عن مواجهة الفشل في التحصيل التعليمي.
وذكر بيان للرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان، كان قد صدر بمناسبة اليوم العالمي لمنع الانتحار، أن “الانتحار أضحى مشكلة خطيرة تهدد الصحة العمومية في الجزائر، إذ قدرت حالاته بما يفوق تسعة آلاف محاولة انتحار فاشلة سنويا في الجزائر وأزيد من 1100 حالة انتحار، أغلبها في صفوف الشباب والمراهقين”.
مؤشر حالات الانتحار يتجه نحو الأعلى، بعد إحصاء معدل سنوي يفوق الـ1100 حالة، أغلبها من الشباب والمراهقين، ومن جنس الذكور تحديدا، مقارنة بالإناث
وأرجع البيان أسباب الانتحار بين الشباب إلى “الظروف الاجتماعية والاقتصادية الصعبة، وكذلك التوتر النفسي وفشل العلاقات العاطفية، والإحساس بعدم الأمان الذي قد يؤدي إلى خلافات عائلية أو زوجية، فضلا عن البطالة، والإحساس بالظلم والتهميش، أو شعور الفرد بانعدام دوره في المجتمع”.
ودعت رابطة حقوق الإنسان إلى “ضرورة التحرك بسرعة لمواجهة الاختلالات التي يعيشها المجتمع، لاسيما بعد أن استسهل كثيرون الانتحار بدل مواجهة ظروفهم الاجتماعية ولم يعد يهمهم إن ماتوا غرقا في البحر عبر قوارب الهجرة السرية أو بدلو بنزين يسكب عليهم من فوق مقر بلدية أو ولاية، أو جرعة دواء زائدة، أو بأسلحة نارية أو بيضاء أو بالشنق أو بالرمي بالنفس من شرفات العمارات والجسور، أو بشفرة حلاقة تقطع الجسد أو بإبرة تخيط فمه”.واستشهدت الهيئة بـحادثة أم لأربعة أطفال في محافظة تبسة حاولت أن ترمي نفسها تحت عجلات سيارة في المدينة وهي تصرخ “أتركوني أموت أهون لي من هذه المعيشة.. أولادي ضاعوا بين يدي”، وذلك بعد عجزها عن شراء الأدوات المدرسية.
جسر العشاق مكان للانتحار
يرى مختصون في الشأن الاجتماعي أن الظاهرة عرفت تطورا كبيرا في الجزائر، تمثل خاصة في ارتفاع معدلات المقدمين على الانتحار من المراهقين والشبان وذلك بالتوازي مع التحولات الاجتماعية التي عرفتها البلاد خلال العقود الماضية، فجسر الحب في حي كريم بلقاسم (تيليملي) في العاصمة، سجل العديد من حالات الانتحار خلال السنوات الماضية، رغم أنه كان مزار الشباب العاشقين من الجنسين، قبل أن تتدخل السلطات المحلية وتضع حواجز وعوازل عالية لمنع اليائسين منهم من الرمي بأنفسهم منه.
وخلال العشرية الأخيرة تحوّل الانتحار إلى طريقة يحتج من خلالها الشباب على الظروف الاجتماعية والاقتصادية كالشغل والسكن والبيروقراطية، إذ كثيرا ما تداولت تقارير محلية حالات لشباب يحرقون أجسادهم بالنار والبنزين أمام مقار الهيئات الحكومية، أو التهديد برمي أنفسهم من أسطحها وحتى خياطة الأفواه وتقطيع الأوردة، للتعبير عن حالة الحنق التي يعاني منها هؤلاء، والاستعداد للتضحية بالنفس أمام تجاهل الدولة لمطالبهم.
واعتبرت الدعاية الحكومية والدينية الموالية لها، ظاهرة الهجرة السرية (الحرقة)، وجها من أوجه الانتحار، لأن فرص الموت في عرض البحر توازي أو تفوق فرص النجاة والوصول إلى سواحل الدول المقصودة، وعبأت خطب الأئمة والحملات التحسيسية للحد من الظاهرة بتوظيف الانتحار كسلوك منبوذ دينيا واجتماعيا وأخلاقيا، وقولبت صور الجثث التي يلفظها البحر من حين إلى آخر، في مغامرات الاستهتار بالذات واستسهال الأخطار التي تخلف مآسي لعائلات الشباب ومجتمعاتهم.
وتحول الخمار الذي تستعمله النساء في لباسهن أو الحجاب، إلى الوسيلة الأولى في عمليات الانتحار، التي تقدم عليها الشابات والمراهقات والمسجلة في مختلف ربوع البلاد، حسب الوقائع التي رصدتها التقارير الأمنية، الأمر الذي أثار العديد من التساؤلات. وتم التركيز على نوع من ألعاب الفيديو التي تروج إلى الانتحار، والتي تكون قد تقفت تفاصيل عن أزياء بعض المتابعين أو الممارسين لها من الشابات والعازبات.
وذكرت تقارير محلية أن “عمليات الانتحار الغريبة والمتشابهة، التي حدثت في العديد من الولايات وبطلاتها شابات ومراهقات أدخلت حالة من الرعب، بالنسبة إلى الكثير من العائلات، خلال العام 2019”.
وأرجع البعض عمليات الانتحار التي تتم باستخدام الفتيات للخمار إلى “تطبيقات إلكترونية ما زالت مجهولة المصدر ولم تعرف بعد طريقة تأثيرها، لكنها وصلت إلى البنات وغالبيتهن من العازبات، ممن طُلب منهن الانتحار شنقا من أجل العيش في دنيا أخرى تمنحهن ما يردن”.
ونقلت وسائل إعلام محلية، أن التقارير الأمنية أحصت خلال الأشهر الأولى من العام الماضي، عشر حالات انتحار باستعمال الخمار، الأمر الذي يثير الاستغراب ويطرح فرضيات توظيف مبطن لهذا الزي من طرف التطبيقات المحرضة على الانتحار، كما هو الشأن لما عرف بـ”لعبة الحوت الأزرق”، التي استعمل ضحاياها تقنية بتر الأوردة الدموية.
الانتحار بالخمار
في مطلع العام المنقضي تم إحصاء حالتين بنفس الطريقة في ولايتين متجاورتين، إذ أقدمت طالبة ثانوية في الثامنة عشرة من العمر بولاية أم البواقي على الانتحار شنقا بخمارها في غرفتها، وفي نفس التوقيت قامت شابة في الحادية والعشرين من العمر تقطن ببلدية بئر العاتر بولاية تبسة بأقصى شرق البلاد، بشنق نفسها بواسطة خمارها، وفي الحالتين أجمع من يعرفون الشابتين على حسن أخلاقهما وطيبتهما وسلامة صحتهما النفسية.
وفي نفس المنطقة أقدمت عزباء في عيد ميلادها الرابع والثلاثين، من ولاية الطارف، على الانتحار شنقا بالخمار، كما انتحرت شنقا شابة جامعية في الرابعة والعشرين من العمر بوساطة خمارها في غرفتها بمنزلها الكائن بولاية ميلة، التي اهتزت هي الأخرى على وقع إقدام محامية عزباء في الثانية والثلاثين من العمر على الانتحار شنقا في بيت شقيقتها بوسط المدينة المذكورة.
وعلى نفس المنوال قضت شابة في الـ18 من العمر بأم البواقي، وأم لطفلين بنفس المنطقة، وكان الخمار هو الوسيلة التي تتم بها العملية.
ووضع تقرير الرابطة الحقوقية، الجزائر في منتصف ترتيب الظاهرة في العالم العربي، ولفت إلى أن أكثر من خمسين بالمئة من حالات الانتحار هي من العاطلين عن العمل، و18 بالمئة منهم يزاولون مهنا حرة، و12 بالمئة يزاولون مهنا هشة على غرار موظفي البلديات وتشغيل الشباب وعمال النظافة، ممن تحتم عليهم ظروفهم الاجتماعية التفكير في الانتحار بسبب تدهور المستوى المعيشي، في حين 11 بالمئة من الموظفين يقدمون على الانتحار.
وتبقى نسبة 6 بالمئة المسجلة من قبل الطلبة والتلاميذ، رقما مخيفا وآخذا في الارتفاع، نتيجة خوف هؤلاء من ردود فعل أوليائهم على النتائج الدراسية السلبية المحصلة، أو التسرب المدرسي، وهو ما يدفعهم إلى هذا المصير بسبب عجزهم عن مواجهة أوضاعهم، وتقصير الأولياء وحتى إدارات التعليم في فهم الأسباب الحقيقية لإخفاق أبنائهم والتكفل اللازم بفشلهم.
ولفت التقرير إلى أن “المجتمع يعيش حاليا مرحلة تفكك سوف تخلف كوارث عديدة في المستقبل القريب لو ظلت الأمور على حالها، ولم تتحرك الجهات الوصية بشكل فعال وناجع”، وحض على فتح باب الحوار بين الشباب وأصحاب القرار وتوفير بيئة تسود فيها الشفافية والعدالة الاجتماعية، وعدم تجاهل المشاكل والعوائق التي تغذي حالة اليأس المستشري لدى هؤلاء.
المخدرات للموت البطيء
تحول استهلاك المخدرات والحبوب المهلوسة إلى ملاذ الكثير من الشباب والمراهقين لملء الفراغ المحيط بهم، وتفاقم الإدمان والإفراط في الاستهلاك إلى درجة الموت البطيء، وهو وجه من أوجه الانتحار، الأمر الذي يجسد تشابك الأسباب والعوامل المؤدية إلى تنامي الظاهرة في البلاد، خاصة في ظل غياب تكفل حقيقي بحالات الشبان المسجلة، لاسيما أن السلوك تكرر أكثر من مرة في نفس الحالات.
وتحصي منظمة الصحة العالمية أكثر من 800 ألف شخص يقضون كل عام منتحرين، بمعدل حالة واحدة تقع كل 40 ثانية تقريبا، وأخذت تجربة الشاب محمد البوعزيزي، في تونس بعدا سياسيا واجتماعيا في الجزائر، وتحولت إلى نموذج للاحتجاج والمطالبة بالتغيير، والأمل في قلب الأوضاع نحو الأحسن، كما فعل البوعزيزي الذي قلب نظاما سياسيا في البلاد وفي المنطقة عموما.
ويرى مختصون اجتماعيون أن الانتحار تحول لدى الشباب إلى وسيلة للاحتجاج على البيروقراطية الإدارية ومواجهة التهميش السياسي والاقتصادي، وأن حادثة البوعزيزي، فتحت عهدا جديدا في مفهوم الانتحار ودلالاته وانتشاره، فغالبا ما يكون الانتحار أو التهديد به رسالة للشباب الرافضين للواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.
الظاهرة من التابوهات
يرى أستاذ علم الاجتماع غفور عبدالباقي، أن “السلوك الانتحاري أصبح ظاهرة عالمية لانتشار نطاقها في الكثير من المجتمعات بشكل واسع وسريع”، في إشارة إلى إحصائيات المنظمة العالمية للصحة، التي دقت ناقوس الخطر إثر إقدام شخص كل 40 ثانية على فعل الانتحار في العالم، مما دفعها إلى رفع شعار “لنعمل معا على دفع الانتحار” في اليوم العالمي للصحة النفسية.
وفي هذا الشأن تقول البروفيسور حنان حسين، رئيسة وحدة الأمراض العقلية بمستشفى عنابة، إن “الظاهرة بدأت تعرف منحى تصاعديا مقلقا عند الشبان والمراهقين من الجنسين بسبب زيادة حالات الانتحار في الكثير من مناطق الوطن”.
وأضافت “بناء على إحصائيات قام بها زملاء على مستوى ولايات البليدة ووهران وقسنطينة وفي الجزائر العاصمة، تبين أن الظاهرة آخذة في الارتفاع، وكمثال على ذلك ثمة إحصائية تنبهنا إلى أنه ومثلا في ولاية البليدة بلغ عدد المنتحرين 69 شخصا بين عامي 2003 و2007، ليصل إلى 35 حالة انتحار في العام 2008 لوحدها، وفي ولاية تيزي وزو لوحدها كذلك بينت دراسة قام بها البروفيسور غزالي أن عدد حالات الانتحار تعدت 60 حالة في 2007”.
وعن الحلول الوقائية تقول البروفيسور حنان حسين، إنه “بات لزاما على المنظومة الصحية التكفل الجيد والمبكر بالأمراض العقلية، حتى لا تتفاقم وتؤدي إلى نتائج مأساوية، وللحد من هذه الظاهرة يجب التفكير في مقاربة اجتماعية واقتصادية وسياسية، لمحو إحساس الشباب بأفكار البؤس والتسلط واليأس التي تعاني منها العديد من شرائح المجتمع، ولا يتأتى ذلك إلا بفتح قنوات للاتصال من طرف الدولة بمختلف مؤسساتها، من أجل التعبير عن آمالهم وطموحاتهم وآلامهم بطريقة سياسية علمية ودينية”.
ورغم تداعياتها الوخيمة على الأسرة، إلا أن الظاهرة تبقى من التابوهات غير القابلة للتحطيم، بالنظر للأحكام النمطية أخلاقيا واجتماعيا. وأظهرت دراسة أعدتها مديرية الصحة في ولاية تيزي وزو، لكل من الدكتور زيري عباس وسقلاوي محمد، أن الانتحار ظاهرة تؤثر في الجميع، كما لا تزال إلى غاية الآن تمثل أحد التابوهات التي يتعامل معها المجتمع بأفكار مسبقة.
وتوصلت الدراسة إلى أن “الانتحار يظهر ضمن الثلاثة أسباب المؤدية إلى وفاة الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و44 عاما، كما أن أكثر المنتحرين هم من الشباب والذكور مقارنة مع الإناث، كما أن 75 بالمئة من المنتحرين سبق لهم التصريح بالرغبة في الانتحار”.
ونبهت إلى أن “محاولة الانتحار ليست تافهة، مهما كانت الوسائل المتبعة، فأغلب الانتكاسات تحدث في الأشهر التي تعقب محاولة الانتحار وقد يقع حينها الانتحار فعلا، وأن الشخص الانتحاري لا يبدو بالضرورة مكتئبا، فوراء وجوه مرحة يمكن إخفاء حزن كبير”، كما نفت الدراسة أن يكون الانتحار وراثيا، ومع ذلك يمكن للانتحار التأثير في عائلة ما على أفراد هذه الأسرة على مدى أجيال.