عندما تقول الجزائر أن طرابلس «خط أحمر»
العاصمة الليبية طرابلس «خط أحمر نرجو ألا يتجاوزه أحد»… قالتها الجزائر بوضوح لا لبس فيه. وإذا ما أضيف لذلك تنديدها القوي بالمجزرة التي حصدت أرواح حوالي الثلاثين طالبا في الكلية العسكرية بطرابلس ووصفها له بجريمة حرب فإن الرسالة باتت جلية وعنوانها الأبرز : جماعة خليفة حفتر والدول العربية التي تقف وراءه.
وعندما تعلن الرئاسة الجزائرية هذا الموقف المقرون بدعوة المجموعة الدولية ومجلس الأمن إلى «فرض الوقف الفوري لإطلاق النار في ليبيا» خلال استقبالها رئيس حكومة الوفاق الليبية فائز السراج وبالتزامن مع زيارة وزير خارجية تركيا مولود جاويش أوغلو إلى البلاد، فإن عدم التقاط هذه الأطراف لرسالة بهذه القوة وهذا الوضوح يعد أمرا شديد الغباء.
ما سبق يجب ألا يحجب أيضا أن الرئيس عبد المجيد تبون دعا كذلك إلى «إنهاء التصعيد والنأي بالمنطقة عن التدخلات الخارجية»، مع التذكير بموقف الجزائر القائم على مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للغير، في إشارة ضمنية إلى القرار التركي بإرسال قوات تركية لدعم الحكومة الليبية المعترف بها دوليا. يأتي هذا الموقف بعد يوم واحد من تأكيد الخارجية الجزائرية رفضها أي وجود عسكري أجنبي في ليبيا ودعوتها إلى «حل بين الليبيين» وحدهم.
إذن تكاد تكون الجزائر الوحيدة التي تجمع بين إدانة صريحة لما تتعرض له العاصمة طرابلس من «عدوان»، وفق وصف وكالة الأنباء الجزائرية قبل أيام، ورفض أي تدخل عسكري أجنبي في الشأن الليبي. هي بذلك تضع حدا للحوَل الذي ميّـــــز مواقف عدد من دول، لاسيما في الاجتماع الأخير لجامعة الدول العربية في القاهرة حين لم تر التدخل الأجنبي في ليبيا إلا في ما أعلنته أنقرة، في إغفال متعمد لتدخل كل من روسيا بشركاتها الأمنية شبه الرسمية والإمارات بطيرانه وغاراته القاتلة ومصر وإسنادها المتعدد الأوجه فضلا عن المرتزقة الأفارقة يتقدمهم سودانيون عبر «المتعهد» محمد حمدان دقلو حميدتي وقوات «الجنجويد» سيئة الصيت.
كثير من الصارخين ضد التدخل التركي المفترض والمولولين لم يشاؤوا رؤية الأمور إلا من هذه الزاوية الضيقة، متوقعين أن تظل حكومة الوفاق تنتظر دخول «الفاتح» حفتر للعاصمة دون أن تحرك ساكنا فيما يجمع هذا الأخير كل الدعم الخارجي العسكري والسياسي دون أن يروا في ذلك أمرا معيبا
كثير من الصارخين ضد التدخل التركي المفترض والمولولين لم يشاؤوا رؤية الأمور إلا من هذه الزاوية الضيقة المنحازة، متوقعين أن تظل حكومة الوفاق «مكتوفة الأيدي» وفق تعبير السراج تنتظر دخول «الفاتح» حفتر للعاصمة دون أن تحرك ساكنا فيما يجمع هذا الأخير كل الدعم الخارجي العسكري والسياسي دون أن يروا في ذلك أمرا شائنا أو معيبا. ومن هنا تأتي أهمية الموقف الجزائري الذي طرح الموضوع من ناحية مبدئية عامة مع التأكيد على أمرين أساسيين: رفض اقتحام العاصمة الليبية بالقوة وضرورة الحل السياسي بين الليبيين أنفسهم وهما أمران إذا ما توفرا فلا حاجة مطلقا لتدخل تركي أو لغيره.
لقد سبق لنائب الرئيس التركي أن صرح قبل أيام بأن قرار التدخل «رسالة» من بلده إذا ما التقطها المعنيون فقد لا تتكون هناك حاجة للقيام به أصلا. هنا تبدو أن الجزائر وحدها من التقط المعنى الحقيقي للتصريح التركي، رغم أنها لم تكن المعنية به، فاتجهت إلى تفعيله لتجنب الأسوأ عبر تحريك الأمور بعيدا عن لغة السلاح الداخلي والخارجي ففرضت نفسها طرفا مدعوا أخيرا لحضور مؤتمر برلين المزمع عقده قريبا حول الأزمة الليبية، فيما ظلت القاهرة وأبوظبي وجماعة حفتر تعزف على نفس النغمة.
مجرد مثال على ذلك، هذا التصريح للمتحدث باسم البرلمان الليبي في طبرق الموالي لحفتر عبدالله بليحق، فهو بعد أن أعرب عن الأمل في أن يكون «الدور الجزائري في الأزمة الليبية دورا إيجابيا رافضا للتدخل الخارجي» هرع سريعا للقول إن «الليبيين يعولون اليوم على نجاح الجيش الوطني بقيادة المشير خليفة حفتر في تحرير العاصمة طرابلس من الجماعات المتطرفة والمليشيات الخارجة عن سلطة الدولة، ثم الذهاب إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية حرة ونزيهة دون مشاركة الإسلاميين والجماعات المتطرفة»… مع ما يعنيه ذلك أن هذا الطرف ما زال «يركب رأسه» ولم يستوعب شيئا مما يجري حوله متوهما أنه بامكانه أن يفرض ما يريد رغم أنف الجميع.
نقطة قوة الدبلوماسية الجزائرية، التي بدأت تستعيد عافيتها مؤخرا وتلتفت إلى محيطها المتوتر بعد فترة غياب شغلتها فيه الأوضاع الداخلية المضطربة، أنها قادرة على التواصل مع جميع المؤثرين من ذلك اتصالات وزير خارجيتها مؤخرا بكل من الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، ومع وزراء خارجية كل من مصر والإمارات وفرنسا ومالي والنيجر وتشاد.
سيكون حفتر ومن معه مخطئين جدا إن هم ظنوا أن هجومهم العسكري على طرابلس منذ أبريل الماضي و «ساعة الصفر» التي أعلنها متفاخرا الشهر الماضي سيؤتيان أكلهما وكأن شيئا لم يكن، وكأن الجزائر لم تقل شيئا. الجزائر باختصار شديد لا يمكن أن تقبل أن يصبح مجاورا لها شخص انقلب على شرعية حكم بلاده المعترف به دوليا (رغم الهنات التي نعرفها عن حكومة الوفاق ورغم طبيعة المحيطين بها والمؤيدين ممن عليهم نقاط استفهام)، وأن يكون فوق ذلك مدعوما من دول لا تكن لها الجزائر في الحقيقة ودا خاصا ولا تريد أن يكون مندوبها موجودا على حدودها. ربما هي ترى في ذلك، على الأرجح، تطورا أمر وأقسى من تدخل تركي محدود في طرابلس يؤدي مهمته في صد المهاجمين والعودة لاحقا إلى دياره.