مآلات غامضة لانتقال سياسي تغذيه العرقية في الجزائر
لم يسبق للجزائر منذ استقلالها عن فرنسا عام 1962، أن عاشت انقساما حادا كالذي تعيشه اليوم، مما زاد المخاوف من انتشار خطابات الكراهية والطائفية، والنزعة التسلطية التي لا تعترف بحقوق الآخرين بالرغم من كونها أحد المبادئ الرئيسية التي تقوم عليها الديمقراطية التي ينشدها الجميع.
كشفت تظاهرات وشعارات الحراك الشعبي وتداعياتها عن تطرف خطير لأفكار هؤلاء وأولئك، لم يسلم منها لا قائد الجيش الراحل الفريق أحمد قايد صالح، ولا المواطن البسيط ولا إمام المسجد، ولا حتى كريم بن زيمة نجم ريال مدريد الإسباني لكرة القدم والمنحدر من أصول جزائرية.
يقول سمير دريدو، وهو موظف متقاعد، إنه اضطر لغلق حسابه على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، هربا من التعليقات العنصرية المتطرفة لبعض المغردين، مضيفا أنه لا يفهم كيف يرقص بعض الناس فرحا لوفاة قائد الجيش الجزائري، رغم أن تصرفا كهذا يتعارض مع مبادئ الدين الإسلامي الذي تعتنقه غالبية الجزائريين.
ويكشف دريدو أنه ذهل للمشهد الذي وقف عليه بأحد أحياء بلدة الدار البيضاء في العاصمة الجزائرية، عندما انقسم السكان إلى قسمين: العرب المتعاطفين مع قائد الجيش، والقبايل (الأمازيغ) المعارضين له.
لم تتوقف المواقف المتطرفة عند مواقع التواصل الاجتماعي، بل امتدت حتى إلى بيوت الله، ونال غضب أحد المصلين من خطيب مسجد في بلدة العاشور بأعالي العاصمة الجزائرية، لأنه دعا في مستهل درس الجمعة بالرحمة لقائد الجيش الراحل ووصفه بـ”المجاهد الكبير” مثلما أمرت به وزارة الشؤون الدينية والأوقاف. غادر المصلي الغاضب المسجد وصاحبته تعليقات بعدم العودة من قبل مصلين آخرين أعلنوا رفضهم لكل ما من شأنه أن يغذي الفتنة والفرقة بين أبناء البلد الواحد.
لكن كريم بن زيمة اضطر للاعتذار عن حفل تكريمه بوسام الاستحقاق الأولمبي من قبل اللجنة الأولمبية الجزائرية دون غيره من الأسماء التي صنعت مجد الرياضة الجزائرية، بعدما وصلته على ما يبدو أصداء عن إطلاق حملة تعترض على تكريمه في الجزائر رغم أنه ينحدر من هذا البلد.
وفضل بن زيمة، الذي كان يخطط للقدوم إلى الجزائر منذ فترة للقيام بأعمال خيرية بولايتي بجاية ووهران مسقط رأس والديه، إرجاء هذه الزيارة حتى لا يستغل اسمه وصورته ربما في تغذية “صراعات لا تسمن ولا تغني من جوع”.
غير أن الإعلامي سفيان أمين يرى أن تكريم بن زيمة يدخل ضمن مهام اللجنة الأولمبية الجزائرية انطلاقا من حقها في التصدي لكل أشكل التمييز العنصري، الديني والسياسي والعرقي بموجب قانونها الأساسي، موضحا أن بن زيمة ذهب ضحية “عنصرية دولة”، في إشارة إلى استبعاده من المشاركة مع المنتخب الفرنسي بقرار من السياسيين في المقام الأول وليس من الجهاز الفني لمنتخب الديكة.
وحمل سفيان اللجنة الأولمبية الجزائرية مسؤولية صعود أصوات معارضة لتكريم بن زيمة، لفشلها في إيصال المعلومة كاملة للمتلقين، وهو ما فتح الباب أمام المتطرفين للخوض في موضوع لا يحيطون به علما.
فرق تسد
يقول عبدالمجيد شيخي رئيس المركز الجزائري للأرشيف إن الجزائر تشهد اليوم عودة قوية لسياسة “فرق تسد” التي طبقتها فرنسا الاستعمارية لبعث الشقاق في وسط المجتمع الجزائري بما كانت تراه يضمن لها بسط سيطرتها على البلد وخيراته، وإفشال كل المقاومات من الداخل.
ويفسر شيخي أن بعض الشعارات التي رفعت من قبل بعض المتظاهرين كانت تدعو إلى “اللائكية المتشددة التي تستهدف بالأساس التنكر للإسلام واللغة العربية ولكل التقاليد التي ورثها الشعب الجزائري، ضمن مقاربة جديدة تقود إلى العصرنة”.
واعتبر شيخي أن من يرافع لإقامة مجلس تأسيسي كمن يسعى إلى مراجعة عميقة للدستور ومبادئه، وهو ما يعني إعادة النظر في ثوابت المجتمع الجزائري وقيمه. وأكد أنه لا يقبل أبدا المساس بالوحدة الوطنية ولا الوحدة الترابية الإقليمية ولا المدرسة، مشددا على ضرورة الابتعاد عن كل ما يرمز أو ينمي الحقد والكراهية.
واستطرد “نشهد اليوم العودة إلى عقلية الكوخ والقرية الصغيرة جدا، سأكون سعيدا جدا لو أتجول من أقصى شرق الجزائر إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها دون أن يسألني أحد من أي منطقة جئت. خلال الثورة الجزائرية كان جيش التحرير يعدم الجنود الذين يسألون زملاء لهم عن أصلهم، شخصيا عشت ذلك. لا بد من الابتعاد عن هذا المنطق والتفكير غير السوي الذي هو في الحقيقة نتائج لسياسة فرق تسد التي كانت تطبقها فرنسا الاستعمارية”. ودعا إلى مراجعة كل العوامل التي من شأنها أن تلحق الضرر بالتماسك الاجتماعي بطرق مدروسة وواضحة وواقعية.
غياب الثقة
يقرأ مراد أحمد، وهو واحد من الكفاءات الجزائرية التي قررت منذ سنوات الهجرة إلى الخليج، الواقع الجزائري في بلاده، فيقول “إن الانتخابات كان يفترض أن تكون بداية حل للأزمة السياسية والدستورية التي أعاد تمسك بوتفليقة بالحكم إنتاجها، لكن في الواقع جاءت لتحل أزمة النظام القائم الذي تعرض لهزة عنيفة مع اندلاع انتفاضة 22 فبراير”.
وتابع “لقد كانت انتخابات مغلقة ومحسومة النتائج سلفا بالنظر إلى المرشحين ولأسلوب إدارتها الذي كان تحت إدارة الجيش… فقد فشلت الانتخابات كعملية سياسية في تجنيد الناخبين وهو ما يعني فقدانها المصداقية. وبالنظر إلى المرشحين ورصيدهم السياسي كان من الصعب أن يحسمها أحدهم من الدورة الأولى؛ إذ لم تكن لدى أحد منهم شعبية طاغية تتيح له الفوز بالأغلبية دون دورة ثانية”.
وذكر أن قراءة النتائج صعبة للغاية لأنها لا تعكس المعطيات الحقيقية، ولا يمكن أن نجزم أن الإسلاميين خسروا أو تغيرت الحركة التي تمثلهم، مشيرا إلى أن الانتخابات هي آلية تأتي في آخر مسار سياسي يحظى بإجماع على مضمونه وعلى قواعد لعبته.
وأضاف “لكن في الواقع كانت الانتخابات التي جرت في 12 ديسمبر هي هدف لإنهاء فراغ دستوري وأزمة سياسية هي ناتجة بالأساس عن أكثر من 20 عاما من الانتخابات المغلقة يكون فيها لدى الجيش مرشحه… وحينما يختار الجيش مرشحه فإننا أمام انتخابات غير ديمقراطية”.
ومن جهته، يعتقد المفكر السياسي والوزير الأسبق نورالدين بوكروح أن أول تحد يجب على الرئيس الجديد عبدالمجيد تبون الذي لا يمكنه يقينا تعزيز شرعيته المنقوصة بوعوده، خلق مصلحة داخل الرئاسة لإعادة جثامين الجزائريين من الخارج مجانا، أو بالتدخل في قضايا الأكياس البلاستيكية، أو بإعفاء الموظفين من دفع الضريبة على الدخل الإجمالي، أو أي أفكار أخرى والمستقاة من الشعبوية التي أساءت للبلد كثيرا منذ الاستقلال.
كريم بن زيمة اضطر للاعتذار عن حفل تكريمه بوسام الاستحقاق الأولمبي من قبل اللجنة الأولمبية الجزائرية دون غيره من الأسماء التي صنعت مجد الرياضة الجزائرية، بعدما وصلته على ما يبدو أصداء عن إطلاق حملة تعترض على تكريمه في الجزائر
ولفت بوكروح إلى أن الرئيس الجديد سينال شرعيته بدفعه وتفسيره ولمّ الشمل حول الجزائر الجديدة في المؤسسات والإدارة والسياسة والاقتصاد والثقافة والاستفاقة للأخطار التي ستحيط بها. كما أكد أنه يتعين على الرئيس الجديد أن ينظر إلى نفسه على أنه الرئيس الذي سيقود التحول إلى دولة القانون الديمقراطي والاجتماعي التي يطالب بها الشعب الذي يتظاهر سلميا منذ سنة تقريبا، وعليه أن يتحدث إليه بهذه الصفة. ويمكنه، إذا أراد الحصول على كامل الشرعية التي يحتاجها للقيام بالتغيرات التي يحتاجها، إلى حد العودة إلى انتخاب جديد يكون طرفا فيه، بعد استكماله للدستور الجديد والقوانين الجديدة حول الأحزاب والنظام الانتخابي.
وأوضح أنه دون ثقة الجزائريين وانتخابهم، سيبقى رئيسا لا حقيقة له ودون حرية التحرك التامة، مكروها في بلده ومحتقرا في الخارج وسيفتح بيده الباب على مصراعيه لهذا الأخير لكي يتدخل في شؤوننا لتوسيع خطوط الشرخ بيننا.
لكن المؤرخ لخضر معقال يشهد للراحل أحمد قايد صالح نائب وزير الدفاع، رئيس أركان الجزائر بالدور الكبير في حقن دماء الجزائريين بالرغم من المحطات الصعبة التي مر بها الحراك الشعبي. وأوضح معقال أن مواقف قايد صالح جنبت الجزائر السقوط في مستنقع الفوضى والانجرار نحو العنف، مؤكدا أن الرجل وعد ووفى وأدى الأمانة وحفظ الوديعة قبل أن يرحل إلى العالم الآخر.
ورد بطريقة غير مباشرة عن الاتهامات التي وجهت لقايد صالح، بالوقوف وراء سجن العديد من نشطاء الحراك، بالقول إن الراية الأمازيغية التي رفعت ولا تزال في مسيرات الحراك الشعبي لا ترتبط حصرا بالجزائر لأنها ترفع في دول أخرى، بعكس العلم الجزائري الذي يرمز لوحدة الشعب التي يجب أن تسمو على الخلافات والانقسامات لأنها هي من تضمن الأمن والاستقرار والرفاه.