الجزائريون وتبون… المفتاح والباب المفتوح
يخضع الجزائريون للمساومة تلو الأخرى منذ أكثر من رُبع قرن. في بداية التسعينيات خيّرهم النظام العسكري بين الأمن والاستبداد. وكان الاختيار سهلا وواضحا، فسَادَ طغيان وظلم لم ترَ الجزائر المستقلة لهما مثيلا. ولاحقا خيّرهم الرئيس المخلوع وزمرته بين الفساد والاستقرار. مرة أخرى لم يكن الاختيار يحتاج إلى نقاش في مجتمع يخرج لتوه من حرب أهلية مدمرة، فانتشر فساد ممنهج نخر الدولة والمجتمع حتى كاد يقضي عليهما. هل سيُخيّر الجزائريون اليوم بين القبول باستمرار نظام المخلوع مع بعض الترميم الشكلي، مقابل وجود «العصابة» في السجن؟
ليس سهلا أن تنطلي الحيلة على الجزائريين مرة أخرى. صحيح أنهم ثاروا على المخلوع وفساده الخطير. لكنهم ثاروا كذلك ضد النظام الذي وفرَّ ميكنزمات وثقافة ممارسة الفساد ونشره. وثاروا ضد الطغيان و«الحقرة» بغض النظر عمّن في الحكم.
القبول بـ«صفقة» سجن العصابة مقابل استمرارية النظام مرمّمًا، يعني فرحةً منقوصة. ويعني أيضا استسلاما في منتصف الطريق. والأخطر أن القبول يعني الحفاظ على آليات عودة الفساد والمفسدين بعد أن يزول غبار المعركة الحالية ويبدأ بقايا اللصوص والفاسدين بالتحرر من الخوف وبتجاوز آثار ما يجري اليوم.
الجزائر أمام معادلة مركّبة: اعتقاد النظام بأنه أدى ما عليه وانتصر على الشارع، خطأ قاتل سيعود حتما بالبلاد إلى الأسباب نفسها التي أفرزت الوضع الحالي. وعجزُ الحراك عن التفاعل مع الواقع الجديد، المتمثل في وجود رئيس جديد ورحيل الفريق أحمد قايد صالح، لن يسهم في العثور على طريق الحل.
في العمق، لا يوجد خلاف بين النظام الحاكم والجزائريين ككل، والحراك المستمر خصوصا. خطابات الرئيس عبد المجيد تبون، وقبله الراحل أحمد قايد صالح، تبنّت في أكثر من صيغة مطالب الحراك بدولة مدنية تسودها العدالة والكرامة والحريات وتوزيع الثروة بعدل وإنصاف.
النظام الجزائري رائد في سياسة «تفريغ» المبادرات الصادقة، وبأن له تاريخا من الحوار السياسي العقيم الذي يتعمد، منذ البداية، إفشاله بعد أن يستولي على المطالب الجادة لخصومه
تبقى إذًا مسألة النيّة وتوفرها من عدمه أولًا، وصدقها، إنْ توفرت، من عدمه ثانيًا. هي مفتاح كل الأبواب. إذا توفرت النية وصدقت، يمكن غفران الباقي. عندما يدعو الرئيس تبون الحراك إلى الحوار، فهو كمن يحاول كسر باب مفتوح. المطالب معروفة منذ اليوم الأول وتحتاج إلى من ينفذها بإخلاص وصدق، لا إلى مَن يتحاور حولها. والوحيد القادر على فرض تنفيذها الآن هو الرئيس تبون الذي يمتلك السلطة والصلاحية وقليلا من الشرعية والظرف المواتي حاليا. أما الدعوة إلى التفاوض فتدعو إلى الريبة، وتعيدنا إلى مربع النية. ناهيك عن أنها تحمل في طياتها مخاطر الاصطدام بصعوبات عملية وعبثية من قبيل مَن يمثل مَن ولماذا. ومن قبيل «هذه نعم» لمناقشتها و«تلك خط أحمر».. إلخ.
من المفيد التذكير بأن النظام الجزائري رائد في سياسة «تفريغ» المبادرات الصادقة، وبأن له تاريخا من الحوار السياسي العقيم الذي يتعمد، منذ البداية، إفشاله بعد أن يستولي على المطالب الجادة لخصومه. منذ 1992 والجزائر في نفس الدوامة: دعوات كاذبة من الحكام لحوار يعرف الداعي له وكثير من المدعوين إليه نتيجته سلفا. نظام الجنرال نزار سرق دعوات الحوار التي كانت تطلقها شخصيات سياسية رصينة وحكيمة لإنهاء الحرب الأهلية، ثم أفرغها من محتواها الصادق، الذي يلزم النظام ببعض المسؤوليات والواجبات، وفرضَ أجندته الملغومة مستعينا بأذرع سياسية ونقابية وأهلية. بعد ذلك الحوار المشبوه، ومتكئا على نتائجه، شنّ نزار ورفاقه حرب إبادة دفع المجتمع ثمنها غاليا، ولا يزال.
الجنرال اليمين زروال اتبع، كوزير دفاع ثم كرئيس، خطى نزار ورفاقه، ودعا إلى حوار على المقاس مع الإسلاميين ورافضي الحرب الأهلية، كانت نتيجته معروفة قبل أن يبدأ.
المخلوع بوتفليقة هو الآخر استولى على دعوات المصالحة الصادقة وتفنن في إفراغها من محتواها. ثم تحت غطائها فرض مصالحة عرجاء برَّأت عتاة القتلة والإرهابيين ومنحتهم حصانة أبدية. بعد تلك المصالحة، وبذريعتها، شرَّع أبواب خزائن الدولة للصوص من أقاربه وعبيده.
في كل مرة، وعلى امتداد السنوات، يكون الحوار مطية للانتهازيين السياسيين من أحزاب وشخصيات لجني فتات المكاسب والمناصب.
من الصعب تصديق أن الرئيس تبون غير مدرك لهذه الصورة. ومن الصعب أيضا تصديق أن الرجل يجهل أن الدعوات التي أطلقها للحوار مع الحراك تشبه دعوات نزار وبوتفليقة، وبأنها تحمل في طياتها بذور فشلها. فالحراك أصبح «حراكَيْن» أو أكثر بعد أن أسهم النظام ـ الذي أوصل تبون إلى الرئاسة ـ في تلغيمه وتقسيم الشارع إلى مَن دعموا أجندة الراحل قايد صالح ودافعوا عنها فصنّفهم النظام «وطنيين» و«نوفمبريين»، ومَن رفضوا تلك الأجندة وواصلوا التظاهر كل يوم جمعة، فصنّفهم النظام «خونة» و«عملاء لفرنسا». وما انفكت الهوة بين المعسكرين تتسع وقد تصل إلى عنف لا تحمد عواقبه. إلى هنا، ورغم كل ما سبق، لا يزال من الممكن إنقاذ المعبد، لكن فقط إذا توفرت النية وصدقت. والبداية تكون بنداء شخصي صادق من الرئيس لوقف العنف اللفظي والجسدي الذي يستهدف المتظاهرين. وتكون بمراجعة الدعوات للحوار أيًّا كان مصدرها، لأنه لا يوجد شيء يُتحاور عليه. ومن التوقف عن تقسيم الشارع وتوزيع صكوك الوطنية، وعن الترويج إلى أن الحراك يجب أن يؤطر، لأن هذه مشكلة ثانوية، ولأن تأطير الشيء في العرف السياسي الجزائري يعني نهايته. ونهاية الحراك خسارة للجميع، وللسلطة أيضا.
كما يجب التوقف عن نشر خطاب وثقافة الحقد تجاه «الحراكيين». يجب أيضا التوقف عن تجاهل الحراك وكأنه لا حدث، لأن من شأن ذلك أن يعمّق الشعور بالغبن لدى الشارع ويزيد من القطيعة مع السلطة وانعدام الثقة في كل ما يأتي منها. وما لا خلاف عليه أن السلطة أفلست منذ زمن بعيد، وآخر ما تحتاجه اليوم مزيد من تراجع منسوب ثقة الجزائريين فيها.