وفاة قايد صالح.. حالة وجدانية أم تزكية لمشروع السلطة
أعاد الحضور الشعبي الكثيف لجنازة قائد أركان الجيش الجزائري الجنرال أحمد قايد صالح، الحديث عن مستقبل الحراك الشعبي المستمر منذ أكثر من عشرة أشهر، ففيما يعتبرها البعض أمرا طبيعيا قياسا بالطبع الوجداني للفرد الجزائري، يذهب آخرون إلى أنها استفتاء شعبي مباشر على خيارات السلطة.
وتضاربت ردود الفعل حول تسجيل يتداول بقوة على شبكات التواصل الاجتماعي في الجزائر، حول شخص حاول التقرب من القائد الجديد لأركان الجيش الجزائري الجنرال سعيد شنقريحة، طالبا منه “التدخل لإنهاء حالة الحراك الشعبي، وأن الجحافل التي قدمت لتوديع الجنرال الراحل قايد صالح بمقبرة العالية، تقدم تفويضها للجيش من أجل إنهاء الحالة المذكورة”.
وفيما اعتبرها الكثير من أنصار البروباغندا التي أحاطت بجنازة الجنرال الراحل، على أنها تفاعل بين الشعب وجيشه، وتكريس للثقة بين الطرفين، فان آخرين اعتبروها مقدمة لبروز تيار يريد الدفع بالجيش للاشتباك مع الشارع واستنساخ سيناريو العشرية الحمراء.
ويرى هؤلاء أن مؤسسات الدولة مدعوة للوقوف الصارم أمام هذا الخطاب، خاصة وأن نفس الشخص ردد أمام الجميع في التسجيل المذكور، “سنقطع رأس كل من يخرج الجمعة”، وهو تهديد يعبّر عن رؤية استئصالية بقيت معزولة طيلة الأشهر الماضية، لكنها طفت إلى السطح، حيث سبق لأحد أعوان الأمن في شركة حكومية أن هدد في تسجيل له بنفس الأسلوب، ولوّح بسلاح مسدس رشاش (كلاشنكوف) يستعمله في وظيفته.
وتتجه الأنظار إلى استيضاح الموقف الشعبي، إن كان تزكية لمشروع السلطة في تسيير الأزمة والتعبير عن الرضا بالمخارج التي آلت إليها، من خلال الحضور القوي لجنازة فقيد قيادة الأركان، أو البقاء في الشارع للتعبير عن الاحتجاج المتواصل ضد السلطة.
ويتزامن، الجمعة، مع الأسبوع الخامس والأربعين من عمر الحراك الجزائري، وسيكون الزخم الشعبي مقياسا حاسما لحسم التوجهات السياسية في البلاد، بعد اللغط الذي أحاط بالانتخابات الرئاسية الأخيرة، وتزامنها مع مظاهرات شعبية قوية رافضة لها.
وإن اختلفت ظروف التعبئة الشعبية في الحالتين، حيث حظي الحضور لجنازة الجنرال الراحل بتسهيلات ودعم لوجستي من طرف مؤسسات رسمية وأهلية، فإن قراءات ذهبت إلى اعتبارها مشاركة وجدانية للعزاء والترحم والتعبير عن عدم شخصنة الصراع، ولو كان الأمر يتعلق بتزكية سياسية لخيارات السلطة لكان الحضور قويا بنفس الزخم في الاستحقاق الرئاسي.
وتعترض الحراك الشعبي تحديات كثيرة منذ انطلاقته في شهر فبراير الماضي، لاسيما في ظل فشله في تحقيق تصعيد بإمكانه إيلام السلطة وإرغامها على تقديم تنازلات جديدة، لكنه مع ذلك صمد أمام معوقات كبيرة طيلة الأشهر الماضية خاصة أمام الحملة الدعائية الضخمة التي تشنّ عليه في الإعلام والمنصات الإلكترونية، ومناورات اختراقه وتفكيكه.
ومع ذلك يسجل على السلطة أنها عجزت عن تعبئة الشارع، وحتى لجوئها لفبركة مسيرات شعبية لدعم الانتخابات وتأييد توجهات المؤسسة العسكرية خلال الأسابيع الماضية، لم يحقق التوازن الميداني، بينما في المقابل لم تفلح إجراءات التشديد والقمع في تقليص زخم الحراك المعارض.
ويبدو أنها لم تحقق الصدمة اللازمة في صفوف الطرف الآخر، إلا بفقدان أبرز رموزها خلال المرحلة الماضية، وهو الجنرال قايد صالح الرجل الذي تصدر الواجهة ومسك بمقاليد الأمور في مؤسسات الدولة، ونظمت له جنازة تاريخية.
ورغم أنه كان يمثّل رمزية التحول المنشود بالبلاد خلال الأسابيع الأولى، تحوّل إلى متصدر لائحة المطلوبين للشارع المنتفض في الأشهر الأخيرة، على خلفية ما سمي بـ”تجديده للنظام القائم وتجاهل مطالب الحراك”، وهو صلب الاختلاف على شخصيته بين الجزائريين، فإسقاط رموز نظام الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة، وحفظ دماء الجزائريين، قابله تضييق على الحريات وممارسات قمعية وفرض مخرج أحادي للأزمة.
ويعتبر ناشطون سياسيون أن الحراك الشعبي يمرّ بمنعرجات حاسمة في الأسابيع الأخيرة، فهو مطالب بالحفاظ على سلميته لإجهاض دعوات الانزلاق الأمني، والتأكيد على شرعية مطالبه السياسية.
لكن في المقابل تراهن جهات موالية للسلطة، على التسريع في استغلال الوثبة المعنوية لحسم صراع الميدان، لصالح المقاربة القائلة بفرض المعطيات الجديدة التي أفرزتها الجنازة، وإجبار الشارع على فسح المجال أمام الحياة العادية وأمام مؤسسات الدولة بُغية التفرّغ لتسيير الشأن العام.