إلى متى ستظل يد المغرب ممدودة للجزائر

قبل أن يجدد الملك محمد السادس  دعوته الأحد الماضي إلى فتح صفحة جديدة بين الجارتين المغاربيتين «على أساس الثقة المتبادلة والحوار البناء» مثلما قال، كان باقي العواصم المغاربية ترقب عن كثب ما يجري في الجزائر، وتقرأ استتباعات نتائج الاقتراع الرئاسي فيها بحذر شديد وتحفظ. وكان السؤال الذي شغلها بشدة هو أي سياسة خارجية سينتهج الزعماء القدامى الجدد؟ وهل سيكون بمقدورهم أن يقدموا على إنجاز تغيرات جذرية وعميقة لا تطال دستورهم فحسب، مثلما وعد الرئيس تبون، بل توجهاتهم ومواقفهم أيضا بما يسمح بالتفاؤل بتحقيق تقارب مغاربي طالما تطلعت له الشعوب وتمنته؟
وكان واضحا أن مجريات الظرف وضعت الملف الداخلي على رأس أولويات القيادة الجزائرية. فالرجل الذي وصفه قائد الجيش بالشخص «المناسب والمحنك والقادر على قيادة البلاد»، بات في مواجهة اختبار دقيق وحاسم، يتعلق بقدرته على تهدئة احتجاجات الشارع وتطويق غضبه وإقناع الحراك الشعبي بصدق نواياه في الاستجابة السريعة والفعلية، ولو لجزء من مطالبه وتطلعاته.
لكن إدارة الملف الداخلي لن تعني أبدا أن النظام سيبقى مكتوف الأيدي ومنغلقا على نفسه، يراقب مجرى الأحداث في الخارج. فطريقة التعامل مع تلك المستجدات ستكون ورقة إضافية تسمح له بتوطيد سيطرته وترسيخها بشكل أكبر. ويبدو أن المحيطين بعبد المجيد تبون كانوا يدركون ذلك جيدا، فقدموا فوزه الانتخابي على أنه هزيمة مدوية لفرنسا، وسقوط مريع لمؤامرة خارجية كبرى كانت تستهدف الجزائر، وبالدرجة الاولى جيشها الشعبي. لكنهم لم يعطوا بالمقابل أي تفصيل أو شرح عن الطريقة التي أمكن بها للرجل أن يحقق انتصارا فوريا على فرنسا. ولم يكشفوا بالمثل أيضا هوية المتآمر الحقيقي على البلد سواء كان في الداخل أو في الخارج. غير أنهم وجدوا سلواهم في الهدية الثمينة التي عرضها الرئيس الفرنسي ماكرون على طبق، حين قال بشيء من البرود وبلغة بعيدة عن الدبلوماسية، وفي أول تعليق له على فوز عبد المجيد تبون بالاقتراع الرئاسي، إنه أخذ علما بذلك وإنه يدعو «السلطات إلى ضرورة الحوار مع الشعب الجزائري، الذي يخرج في مظاهرات سلمية»، وجعلوا من التصريح حجة على أن باريس ليست راضية تماما أو قابلة بالرئيس الجديد، ليستخلصوا بعدها وبناء على مقطع من خطاب قديم لهواري بومدين، كان قد ذكر فيه في إحدى المناسبات أنه «متى رأيتم فرنسا راضية عن الجزائر، فذلك يعني أن أمرا ليس على ما يرام يحصل في الجزائر»، إنهم باتوا الان على السكة الصحيحة، أي سكة النظام الوطني، الذي يحافظ على السيادة أمام القوة الاستعمارية، ولا يعمل تابعا أو وكيلا لمصالحها، وكل ذلك لمجرد أن المسؤول الفرنسي لم يهنأ الرئيس ويتمنى له التوفيق في مهامه.

تبون بات في مواجهة اختبار دقيق يتعلق بقدرته على تهدئة احتجاجات الشارع وإقناع الحراك الشعبي بصدق نواياه في الاستجابة السريعة والفعلية، ولو لجزء من مطالبه وتطلعاته

غير أن الرسالة لم تكن في الواقع موجهة بشكل حصري لباريس، فهي كانت تعني وبدرجة كبيرة الجوار الإقليمي للجزائر. إذ أن نبرة التحدي والظهور بمظهر من يقف في وجه قوى السيطرة الأجنبية، كانت إشارة لافتة إلى أن الرئيس الجديد، ومن حوله ليسوا متحمسين لتقديم تنازلات لجيرانهم، قد تفهم على أنها مس أو استنقاص من السيادة أو الكرامة الوطنية، وأنهم قد لا يفكرون في هذه المرحلة على الأقل في مراجعة بعض المواقف والقرارات القديمة. وربما لم يكن بوسع تبون أن يكرر في خطابه الأول بعد الإعلان عن نتائج الانتخابات، ما سبق وصرح به خلال حملته الانتخابية، من انه يشترط على المغرب أن يقدم اعتذارا رسميا قبل البحث في مسألة إعادة فتح الحدود المغلقة منذ أكثر من عقدين بين البلدين، ولكنه كان واضحا انه لم يكن راغبا في أن يجس النبض بمبادرة ما أو يحدث اختراقا ولو بسيطا قد يشرع باب الأمل في حصول تقارب جزائري مغربي، على المدى القصير. ولم يكن الجانب الآخر بدوره يأمل في حصول معجزة تغير الموقف الجزائري مئة وثمانين درجة. فالمرشحون الرئاسيون الخمسة كانوا بالنسبة له يمثلون طرفا واحدا، هو المؤسسة العسكرية، التي ظلت تمسك منذ الستينيات بملف العلاقات بين البلدين، ولا تبدي أي استعداد، أو رغبة للتفريط فيه لجهة غيرها. وربما عكس التأخر النسبي للمغرب في تهنئة تبون شيئا من تلك الهواجس، مثلما كان تأكيد العاهل المغربي لاحقا في برقية تهنئته على أن الأمر يتعلق بتجديد دعوة قديمة لفتح صفحة جديدة في علاقة الجارتين، نوعا من الغمز أو إشارة مبطنة إلى أن الرباط مدت يدها لجارتها أكثر من مرة، وأنها قد لا تكون مستعدة في المستقبل لإبقائها ممدودة إلى ما لا نهاية له، في حال لم يستجب لها الطرف المقابل. ولكن هل كان ذلك بالفعل دليلا قاطعا على أن الباب سيغلق نهائيا، أمام انفراجة محتملة في العلاقات؟ وأن الأزمة الصامتة المستمرة بين البلدين ستتعمق أكثر فأكثر، بدلا من تسوى وتنحل ولو بشكل بطيء وتدريجي؟ ربما أعطى تبون في أول مؤتمر صحافي بعد فوزه، الانطباع بأن كل شيء سيظل على حاله، خصوصا حين أكد على أن زوال العلة لن يكون إلا بزوال أسبابها. فمثلما سيكون صعبا على الرباط أن تقدم اعتذارا علنيا ومباشرا، حتى يفتح الجزائريون الحدود التي أغلقوها، فلن يكون بوسع الجزائريين بدورهم أن يقدموا على ذلك من تلقاء انفسهم، وبدون أي مقابل ملموس من جارتهم.
ولكن التطورات التي تحصل من حولهما قد تجبرهما عن البحث عن صيغة ما لتقارب مدروس لا يكون فيه غالب أو مغلوب. فالجزائر تشعر أكثر من غيرها بثقل ما يحصل الآن في ليبيا، وهي ترى نفسها مستهدفة من وراء أي حرب غقليمية قد تنشب بين لحظة وأخرى داخل جارتها الجنوبية الشرقية. وما يربكها هو أن حليفها الروسي الذي انخرط في الصراع الليبي بقوة، غيبها مثلما فعلت باقي القوى الغربية عن أي خطة للحل. وهي تعلم أيضا أنها قد تدفع ثمنا باهظا لأي تدهور أو انفلات للاوضاع، مثلما تعرف أيضا أن زعامتها المغاربية ستكون مهددة بشكل جدي بأي تدخل أجنبي على حدودها. وبالمقابل فإن المغرب يدرك بدوره جيدا أن المواقف الدولية المنحازة له الآن في الملف الصحراوي، قد تكون ظرفية وقابلة لتغير طارئ ومفاجئ. ولكن من سيبادر لجمع الطرفين إلى طاولة حوار مفتوح؟ ربما سيكون الرئيس التونسي مؤهلا لذلك الدور، ولكن الثقة المفقودة بين النظامين لن تستعاد بالسرعة التي يتصورها البعض، بما قد يعني أن حرب كسب المحاور داخل المغرب الكبير نفسه ستعود بقوة أكبر، من خلال السعي الجزائري لاستقطاب موريتانيا ومحاولة ضرب تقاربها مع المغرب، واستمرار الرباط في تحجيم نفوذ الجزائر وامتدادها داخل القارة الافريقية. أما متى سيكون ممكنا للصفحة الجديدة أن تفتح في علاقة الخصمين؟ فربما سيحصل ذلك عندما يتأكدان معا من أن كل الصفحات القديمة بينهما قد أغلقت نهائيا في باريس ومدريد وباقي العواصم الغربية.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: