مؤشرات مقلقة للثقة في المؤسسات في المغرب

على الرغم من أن موعد الانتخابات التشريعية بالمغرب لا يزال بعيدا بأكثر من سنة ونصف، إلا أن القلق يتزايد من احتمال ضعف نسبة المشاركة السياسية.
الأحزاب، لاسيما شبيباتها، خرجت في حملة مبكرة من أجل الإقناع بضرورة التسجيل في اللوائح الانتخابية، وسط تشكيك كبير في وسائل التواصل الاجتماعي من فعالية هذه الحملات وقدرتها على حفز أوسع شريحة مجتمعية للمشاركة في الاستحقاق التشريعي القادم.
وعلى الرغم من أن المغرب لا يتمتع بتقاليد استطلاعية علمية يُطمأًن إلى نتائجها ومصداقية أرقامها، إلا أن بعض الاستطلاعات والدراسات، أضحت تدق ناقوس خطر من إمكانية أن تعرف الانتخابات القادمة موجة عزوف كبيرة تجعل السياسة برمتها محل تساؤل.
أحد المراكز الشابة، التي نذرت نفسها لتحليل السياسات، أنتج دراسة استطلاعية، تدرس مؤشرات الثقة في المؤسسات بالمغرب، أخرجت أرقاما قاتمة بخصوص نسبة الثقة في الأحزاب والمؤسسة التشريعية والحكومة فضلا عن الأوضاع السياسية والاقتصادية في البلاد، بل كان من مخرجات هذه الدراسة التي أنجزها المعهد المغربي لتحليل السياسات تحت عنوان «مؤشر الثقة وجودة المؤسسات»، بدعم من مؤسسة هينريشبل ـ مكتب الرباط، والصندوق الوطني للديمقراطية، توتر كبير في مؤشر الثقة بين المؤسسات التي ترمز للاستقرار السياسي (الجيش، والأمن، والقضاء)، وبين المؤسسات المعنية بالتشريع وإنتاج السياسات (الحكومة ـ الأحزاب ـ البرلمان)، إذ في الوقت الذي علت مؤشرات الثقة في الجيش حوالي 83 في المائة، والأمن حوالي 78 في المائة، القضاء بنسبة أقل بحوالي 41 في المائة، تراجعت بشكل كبير مؤشرات الثقة في الحكومة والبرلمان والأحزاب، فأعرب 69 بالمائة من المبحوثين عن قلقهم إزاء الاتجاه العام للبلاد، وعبر حوالي 69 في المائة من المغاربة أنهم لا يثقون في جميع الأحزاب السياسية، وأعرب 23 بالمائة فقط عن ثقتهم في الحكومة، أما مؤسسة البرلمان، فقد أظهر68.3٪ عدم ثقتهم في البرلمان، حسب الدراسة التي تم الإعلان عن نتائجها ما بين 3 و 8 ديسمبر الجاري بالرباط.
والحقيقة أن هذه النتائج ليست جديدة، ولا تنعكس فقط على المغرب، في متجهاتها العامة، لاسيما ما يتعلق بالثقة في مؤسسات الاستقرار وعدم الثقة في مؤسسات تدبير السياسة، وما يتعلق بالرضا عن الأوضاع، فقد تواترت استطلاعات كثيرة على مدى عشر سنوات الأخيرة في العالم العربي، أكدت كلها نفس هذه التوجهات، ومن بينها البارومتر العربي، والمؤشر العربي، فضلا عن استطلاعات ومسوح دولية كثيرة أجريت في العالم العربي كالمسح العالمي للقيم واستطلاعات بيو وزوغبي وغيرهما.

الثقة في العملية السياسية، و (الأحزاب) و (البرلمان) و (الحكومة) ليست شيكا على بياض، وإنما هي مشروطة بإصلاح السياسة، والتعبير عن إرادة سياسية، وجدية للسلطة في ترجمتها، وترك الحقل السياسي للفاعلين الأساسيين فيه

لكن المثير في هذه الدراسة، أنها جاءت في سياق مختلف عن الدراسات السابقة، التي اشتغلت على مرحلة ما قبل الربيع العربي، أو اشتغلت على السنوات الأولى ما بعد الربيع العربي، أو عند التوتر الذي حصل بين توجه استمرار ربيع الثورات وتوجه خريف الشعوب العربية، وظهور اتجاه في الرأي العام يميل أكثر نحو الاستقرار وتحصين المعاش أكثر من الميل نحو قضايا الحريات والديمقراطية والكرامة لاسيما بعد تعثرات الربيع العربي، والانقلاب الذي حصل في مصر السيسي.
الخصوصية التي تأخذها هذه الدراسة أنها تخص بلدا خاض تجربة أخرى أو خطا ثالثا، بين ثورات الشعوب العربية، وبين خريف الديمقراطية، وأخذ بين الخيارين طريقا توافقيا، اعتمد صيغة الإصلاح في إطار الاستقرار، واعتمد بشكل كبير على نخب وطنية إصلاحية، كان لها دور كبير في مرحلة ما بعد 20 شباط/فبراير في إعادة الثقة للحياة السياسية ومصالحة المواطن معها، والإقناع بوجود إرادة لدى الدولة للإصلاح، وإمكانية حدوث ذلك، بل إمكانية محاربة الفساد والاستبداد بشكل متدرج.
من هذه الزاوية، يمكن تقييم نتائج هذه الدراسة، للنظر في المدى الذي بلغه خيار الإصلاح في المغرب، وهل استنفد أغراضه، كما استنفدته تجارب إصلاحية أخرى انتهت في الأخير إلى تفكك وترهل الأداة الإصلاحية الحاملة، وعودة السلطوية لطبيعتها.
ثمة هناك زاوية أخرى، مهمة يمكن قراءة نتائج الدراسة في ضوئها، وهي أنها جاءت في سياق بروز مؤشرات تنامي التعبيرات السياسية التي خرجت عن الأطر التقليدية والدستورية والقانونية، بل خرجت حتى عن الفضاءات الأصلية التي تمارس فيها السياسية، وبدأت تنساب من فضاءات الملاعب، والتعبيرات الغنائية، والتعبيرات المباشرة عبر اليوتوب أو مختلف وسائل التواصل الاجتماعي.
الدراسة إذن، ينبغي قراءة نتائجها في علاقة بتقييم تجربة الإصلاح وما إذا كانت استنفدت أغراضها، كما يجب تقييمها أيضا من جهة تنامي العدمية واستهداف المؤسسات في التعبيرات السياسية الجديدة.
في هذا الإطار، يمكن القول بأن نتائج هذه الدراسة، تعزز فرضية ترهل بنية السياسة في المغرب، ووجود فراغ قاتل في حقلها، بما يعني هذا الحقل من فاعلين، ومن بيئة سياسية، ومن قواعد لعب أيضا. فإذا كانت مرحلة ما بعد السابع من أكتوبر 2016، والانزياح عن الخط الديمقراطي، أنتج ظاهرة حراك الريف وبروز الحركات الاحتجاجية في الهوامش وضعف منظومة الوساطة، وتنامي عدم ثقة السلطة نفسها في قدرة الأحزاب على الدفاع عن المؤسسات، فإن فراغ السياسة من الأفكار، وتشابه عقليات الفاعلين في تماهيهم مع السلطة، بما في ذلك الفاعلون الإصلاحيون، وانهيار بعض الرهانات الحزبية، وضعف هامش المبادرة في مقابل إمساك السلطة بكل مفاصل السياسة، هذه المؤشرات بمجموعها هو الذي يفسر إلى حد كبير السبب الذي يجعل جزءا كبيرا من المواطنين يعبرون عن عدم ثقتهم في الأحزاب والحكومة والبرلمان، وربما يعبرون عن نيتهم عدم التصويت في الانتخابات القادمة، ليس هروبا من السياسة، فأغلب المؤشرات تدل على تنامي نزعات التسيس عند هذه الشرائح، ولكن لأنهم يدركون من خلال التجارب العديدة، أن السياسة في المغرب، لا تخرج من يد السلطة، وأن فترات الأزمات التي يتم فيها اللجوء إلى أحزاب المعارضة لتكوين جبهة داخلية قوية تمكن من مواجهة التحديات، سرعان ما يتم الالتفاف حولها، وتعود السلطوية لجوهرها، وأنه لهذا السبب، يعبر المغاربة عن رفضهم لهذه اللعبة برمتها، في الوقت الذي يحرصون فيه على التعبير عن رغبتهم في الاستقرار.
الرسالة التي تفهم من الأرقام المعبر عنها، أن الثقة في العملية السياسية، ومكوناتها (الأحزاب) ومؤسساتها (البرلمان) ومخرجاتها السياسية (الحكومة) ليست شيكا على بياض، وإنما هي مشروطة بإصلاح السياسة، والتعبير عن إرادة سياسية، وجدية للسلطة في ترجمتها، وترك الحقل السياسي للفاعلين الأساسيين فيه، وعدم الانحياز لأي طرف، واحترام لغة الرياضيات في نتائج الانتخابات، إذ لا يمكن لمن جاء في مراتب متأخرة انتخابيا أن يحظى من خلال دعم السلطة وتكتيكات النخب، وديناميات التفاوض غير المتكافئ بالمرتبة الأولى سياسيا ويصير هو الماسك بكل مراكز النفوذ في الحكومة.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: